محصور مع المسلمين في حمص، ورأى منهم فتورا عن الحرب لا لوهن في نفوسهم، أو جبن أصابهم كلا! وإنما هو لرهبة الخالق التي تمكنت من أفئدتهم وقلوبهم وإخافتهم من الموت، لا لذاته، بل لما بعده، فقام فخطب فيهم وتلا عليهم ذلك الحديث وهو1: $"من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة" استحثاثا لهممهم، وتخفيفا لروعهم مما بعد الموت، رجاء رحمه الله وعفوه عن ذنوب اقترفوها مما دون الشرك إذا تابوا، وأنابوا قال لهم هذا وهو يظن أن هذا الحديث لا يتعدى أسماعهم لاعتقاده أنهم إذا خرجوا لمكافحة الروم لا يبقى منهم أحد يحدث به، أو يلابس نفسه أثر منه لكثرة من كان على حصارهم من جند الروم، ولما تم الظفر للمسلمين ونجوا من براثن العدو ندم على أن حدثهم بذلك الحديث وخشي من أن يعلق في نفوسهم شيء منه مع أنه علقه على التوبة، فقام وخطب فيهم فقال: لا تتكلوا ولا تزهدوا في الدرجات فلو علمت أنه يبقى منا أحد لم أحدثكم بهذا الحديث. وتالله إن قومًا بلغ بهم الإيمان الصادق، واليقين الثابت ذلك المقام مقام الرهبة من الله ومن الوقوف بين يدي قدرته بعد الموت لقوم عامتهم أعلم بالدين وأخلص في اليقين من خاصتنا ذلك العصر وماذا يشترط في المحدثين وحملة علوم الدين؟ ألا يشترط الوقوف على مقاصد الإسلام، والتفقه في الحديث والعلم بحالة الخاطبين واجتناب الغلو معهم في الترغيب والترهيب، ومراعاة ما يلابس عقولهم من القوة والضعف وأنى يتيسر هذا وقد نتج عن كثرة الرواية وحمل الحديث بلا تفقه فيه زيغ العقول عن مقاصد الشرع واجتراء الكذابين على وضع الحديث، وشحن الكتب الإسلامية بما لا يرضاه الله والرسول وهو ما كان يحذره عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولهذا نهى في عصره الذي هو خير العصور عن الإكثار من رواية الحديث فما بالك بما يلي عصره من العصور؟
"ذكر الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي الأندلسي في كتابه: "جامع بيان