يَجُوزُ الْمِزَاحُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِرْوَاحِ إمَّا لِلْمَازِحِ أَوْ لِلْمَمْزُوحِ مَعَهُ وَإِمَّا لَهُمَا.
وَأَمَّا الْمِزَاحُ الْمُؤْذِي الْمُغَيِّرُ لِلْقُلُوبِ الْمُوجِسُ لِلنُّفُوسِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ تَحْرِيمٍ أَوْ كَرَاهَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْزَحُ جَبْرًا لِلْمَمْزُوحِ مَعَهُ وَإِينَاسًا وَبَسْطًا، كَقَوْلِهِ لِأَخِي أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ» وَشَرْطُ الْمِزَاحِ الْمُبَاحِ أَنْ يَكُونَ بِالصِّدْقِ دُونَ الْكَذِبِ.
وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنْ أَخْذِ الْمَتَاعِ عَلَى سَبِيلِ الْمِزَاحِ فَهَذَا مَحْظُورٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْوِيعِ صَاحِبِ الْمَتَاعِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا جَادًّا» جَعَلَهُ لَاعِبًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَخَذَهُ بِنِيَّةِ رَدِّهِ، جَادًّا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ رَوَّعَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِفَقْدِ مَتَاعِهِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَلَا يَنْبَغِي لِعَاقِلٍ أَنْ يَخْطِرَ بِقَلْبِهِ وَلَا يَجْرِي عَلَى جَوَارِحِهِ إلَّا مَا يُوجِبُ صَلَاحًا أَوْ يَدْرَأُ فَسَادًا، فَإِنْ سَنَحَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ فَلْيَدْرَأْ مَا اسْتَطَاعَ.
وَالطَّرِيقُ فِي إصْلَاحِ الْقُلُوبِ الَّتِي تَصْلُحُ الْأَجْسَادَ بِصَلَاحِهَا وَتَفْسُدُ بِفَسَادِهَا تَطْهِيرُهَا مِنْ كُلِّ مَا يُبَاعِدُ عَنْ اللَّهِ وَتَزْيِينُهَا بِكُلِّ مَا يُقَرِّبُ إلَيْهِ وَيُزْلِفُهُ لَدَيْهِ مِنْ الْأَحْوَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَحُسْنِ الْآمَالِ وَلُزُومِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَالْإِصْغَاءِ إلَيْهِ وَالْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِ أَدَاءً إلَى السَّآمَةِ وَالْمَلَالِ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ هِيَ الْمُلَقَّبَةُ بِعِلْمِ الْحَقِيقَةِ، وَلَيْسَتْ الْحَقِيقَةُ خَارِجَةً عَنْ الشَّرِيعَةِ، بَلْ الشَّرِيعَةُ طَافِحَةٌ بِإِصْلَاحِ الْقُلُوبِ بِالْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالْعُزُومِ وَالنِّيَّاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، فَمَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الظَّوَاهِرِ مَعْرِفَةٌ لِجُلِّ الشَّرْعِ، وَمَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الْبَوَاطِنِ مَعْرِفَةٌ لِدَقِّ الشَّرِيعَةِ، وَلَا يُنْكِرُ شَيْئًا مِنْهُمَا إلَّا كَافِرٌ أَوْ فَاجِرٌ، وَقَدْ يَتَشَبَّهُ بِالْقَوْمِ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ وَلَا يُقَارِبُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ الصِّفَاتِ وَهُمْ شَرٌّ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَلِأَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ طُرُقَ الذَّاهِبِينَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ اعْتَمَدُوا عَلَى كَلِمَاتٍ قَبِيحَاتٍ يُطْلِقُونَهَا عَلَى اللَّهِ وَيُسِيئُونَ الْأَدَبَ