مُسْتَحِقِّ الْقِصَاصَ إلَى أَنْ يَقْدُمَ الْغَائِبُ أَوْ يَبْلُغَ الصَّبِيُّ، إذْ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِحَبْسِهِ الَّذِي هُوَ أَخَفُّ عَلَيْهِ مِنْ قَتْلِهِ أَوْ قَطْعِ يَدِهِ.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ: مِنْ أَمْثِلَةِ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مَعَ رُجْحَانِ مَصَالِحِهَا عَلَى مَفَاسِدِهَا: قِتَالُ الْبُغَاةِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْبَغْيِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي دَرْءِ الْمَفَاسِدِ أَنْ يَكُونَ مُلَابِسُهَا أَوْ الْمُتَسَبِّبُ إلَيْهَا عَاصِيًا.
وَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ عَاصِيَيْنِ، بَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُلَابِسًا لِمَفْسَدَةٍ وَاجِبَةِ الدَّفْعِ، وَالْآخَرُ تَارِكًا لِمَصْلَحَةٍ وَاجِبَةِ التَّحْصِيلِ. وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ: أَحَدُهَا أَمْرُ الْجَاهِلِ بِمَعْرُوفٍ لَا يَعْرِفُ إيجَابَهُ.
الْمِثَالُ الثَّانِي: نَهْيُهُ عَنْ مُنْكَرٍ لَا يَعْرِفُ تَحْرِيمَهُ.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ: قِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ، مَعَ أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِمْ فِي بَغْيِهِمْ لِتَأْوِيلِهِمْ.
الْمِثَالُ الرَّابِعُ: ضَرْبُ الصِّبْيَانِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الصَّبِيُّ لَا يُصْلِحُهُ إلَّا الضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ فَهَلْ يَجُوزُ ضَرْبُهُ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ تَأْدِيبِهِ؟ قُلْنَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَضْرِبَهُ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ الَّذِي لَا يُبَرِّحُ مَفْسَدَةٌ، وَإِنَّمَا جَازَ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى مَصْلَحَةِ التَّأْدِيبِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ التَّأْدِيبُ سَقَطَ الضَّرْبُ الْخَفِيفُ، كَمَا يَسْقُطُ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ؛ لِأَنَّ الْوَسَائِلَ تَسْقُطُ بِسُقُوطِ الْمَقَاصِدِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْمُعَزَّرُ الْبَالِغُ لَا يَرْتَدِعُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ إلَّا بِتَعْزِيرٍ مُبَرِّحٍ فَهَلْ يَلْحَقُ بِالصَّبِيِّ؟ قُلْنَا: لَا يَلْحَقُ بِهِ بَلْ نُعَزِّرُهُ تَعْزِيرًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَنَحْبِسُهُ