قدم حلب في صدر عمره، وأقام بها مدّة، وكتب بها لسلطانها الملك الظاهر غياث الدين غازي بن يوسف بن أيوب- رحمه الله تعالى- ثم انفصل عنها وخدم للملك العادل سيف الدين أبي بكر، وعاد إليها مع الملك الأشرف.
واجتمعت به بها، ثم اجتمعت به برأس عين الخابور، وكتب منها بها شيئًا من نظمه، وقرأت عليه بحرَّان جزءاً يرويه عن والده، من جمع الأقليشي رواية والده عنه.
وسألته عن مولده، فقال: ولدت في ذي القعدة سنة ستين وخمسمائة، وتوفي بالرّقة في تاسع عشر جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وستمائة، ودفن بها بباب مشهد أمير المؤمنين علي- عليه السلام- وبني له تربة على قبره.
ثم قال: ومما أنشدني لنفسه في الملك المعظم شرف الدين عيسى بن الملك العادل عند مقدمه من الحج، ويذكر فيها توديعه عند سفره إليه: [من الكامل]
ما بال قلبك للنوى لا يخفق ... أتراك كنت بحبِّهم تتلمَّق
إن أتهم الأحباب لست بمتهمٍ ... معهم ولست بمعرقٍ إن أعرقوا
ما أقطعوك سوى القطيعة عندما ... جمعوا همومك في الحشا وتفرَّقوا
/ 179 ب/ ولئن كتمت هواهم وسترته ... فبكلِّ جارحة لسانٌ ينطق
ولقد جننت بهم فقيَّدك الهوى ... وعن السُّلوِّ عليك بابٌ مغلق
فلذاك دمعك في الخدود مسلسلٌ ... وأسير قلبك بالصَّبابة موثق
جدَّ الحداة بهم ولو علموا بما ... لاقيته لتعطَّفوا وترفَّقوا
حطموا بقصدهم الحطيم مخلَّفًا ... وبدمعةٍ تلك المشاهد خلَّقوا
وأظنُّ قلبك من جمارهم الَّتي ... كانوا بها عند المحصَّب حلقوا
لو كنت شاهدنا عشيَّة ودَّعوا ... وقلوبنا بيد المطيِّ تشقَّق
وعيوننا عين تجود بعبرةٍ ... ممزوجةٍ بدمٍ وأخرى تخفق
لحسدت من أنف التَّعبُّد للهوى ... وعلمت أنَّ الحر من لا يعشق