Q ما رأيكم في تحقيق الشيخ محمد رشيد رضا لكتاب الاعتصام؟
صلى الله عليه وسلم أولاً: أعطي لمحة عامة عن كيفية تحقيق الكتاب المخطوط؛ لأن هذا له علاقة وطيدة جداً بالسؤال، وحتى لا يشك أحد في كتاب ما ويقول: لعل المخطوط لم يصل أو لعلها مدسوسة إلخ.
عندما كان أسلافنا القدماء يكتبون الكتب المدونة التي يؤلفونها، إما بأيديهم أو عن طريق نساخ الأجرة، فكان بعضهم يخط لنفسه كشيخ الإسلام ابن تيمية كان كما يقول ابن القيم في الوابل الصيب: (كان يكتب في ليلة ما ينسخه الناسخ في جمعة) فيؤلف في الليلة مجلدين أو ثلاثة بحيث أنك لو أردت أن تنقل وراءه لنفسك تظل أسبوعاً تنقل الذي كتبه في ليلة واحدة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
مع لفت النظر إلى أن التأليف أصعب من النسخ، إذ يمكن أن ينسخ الشخص وعقله فارغ، فيكتب الذي أمامه، ولكن شيخ الإسلام كان يؤلف.
فكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بسبب السرعة الشديدة أحياناً لا يظهر خطه ولا يبين.
لكن لم يكن شيخ الإسلام يحجر على الناس ألا يقرءوا إلا نسخته، إنما كان تلاميذه وكان لهم خطوط حسنة ينقلون عنه، ثم يعرضون النسخ التي نقلوها عليه فيقرها، فتختم بختم الدولة آنذاك، وتلحق بالكتب المخطوطة وتوضع في الخزينة.
وهذا لكثرة الذين كانوا يؤلفون الكتب وينسبونها إلى أناس مجهولين أو مشهورين، حتى يقال: إن هذه نسخة معتمدة قرئت على المؤلف وأنه أقر كل حرف فيها، وأنه يُسأل عن كل قضية فيها، فيختم بختم الدولة ويوضع في الخزينة العامة، وكل كتاب من كتب السلف كان يعامل بهذه الصفة.
وكان أيضاً ممن ينسخ لنفسه الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه صاحب كتاب فتح الباري، وكان رديء الخط جداً، حتى أنهم ذكروا من اللطائف أنه لم يكن يعرف أن يقرأ خطه، وعندما كان يؤلف كتاباً، ثم يريد أن يقرأه ثانياً كان يعاتب نفسه ويقول: كيف السبيل حتى نصل إلى الكلمة الحقيقية؟ فكان شيخ الإسلام ابن حجر مع رداءة خطه يكسل أن يرفع القلم ليفصل بين الكلمة والكلمة، فكل كلامه متصل، بحيث أنك لا تستطيع أن تعرف هذه الكلمة انتهت بواو أو انتهت بقاف أو انتهت بعين.
فكانوا يجدون في المخطوطات التي خطها الحافظ ابن حجر بنفسه مشقة شديدة، إنما اعتمدوا في كتب الحافظ ابن حجر -لأنها انتشرت- على نسخ التلاميذ والنساخ الذين كان الحافظ يعطيهم الأموال لأجل نسخ الكتب.
فيتواتر للكتاب الواحد نسخة ونسختان وثلاث وأربع، وأحياناً تصل إلى عشرين نسخة على حسب شهرة الكتاب، فعندنا في دار الكتب المصرية لصحيح البخاري فقط سبعة وعشرون نسخة، وفي كل مكتبة من مكتبات العالم لصحيح البخاري فوق العشر والعشرين نسخة.
فتجد أنك لو جمعت كل النسخ لصحيح البخاري في العالم كله لأمكن أن تصل إلى أكثر من مائتي نسخة؛ لأنه كتاب مشهور جداً وتلقته الأمة بالقبول، فكان كل رجل من العلماء أو من الأشراف حريص على أن يكون في بيته نسخ من صحيح البخاري.
ومثلاً: نحن الآن عندنا كتاب رياض الصالحين يكاد يكون مثل المصحف في بيوت الناس، كل بيت تجد فيه رياض الصالحين بجانب المصحف، فنسخ رياض الصالحين كثيرة جداً جداً مما يجعل الثقة بالكتاب (100%) .
لكن هناك كتب لا يوجد منها إلا نسخة أو نسختان أو ثلاث، وأحياناً عشر، لكن قامت على مؤلفه القيامة آنذاك فأحرقوا كتبه، فلم تبق من هذه النسخ إلا نسخة فريدة أو نسختان.
ولما جاءت الحملة الفرنسية (المباركة!) كما يصفونها في كتب التاريخ، لم يأتوا أصلاً لأجل احتلال ولا لأجل أن يخرجوا حجر الرشيد ولا لأي شيء من هذا إنما أتوا ليسرقوا تراثنا.
اذهب إلى باريس تجد المكتبة الضخمة فيها نفائس المخطوطات الإسلامية مما يضطر الباحث لأجل أن يحقق كتاباً أن يسافر إلى فرنسا، وطبعاً في فرنسا سيبيت في الفنادق ويأكل من أكلها ويشرب من شرابها، وكل هذه أموال تعود لصالح الفرنسيين.
ثم يصور المخطوطة التي هي لنا، تراث أجدادنا نحن، ويرجع بها بعد شهر أو شهرين، وقد لا يوافقون أن يصوروا له.
الاستعمار الإنجليزي أو الفرنسي أو الروسي كلهم سرقوا جميع كتبنا، ولذلك تجد مخطوطات المسلمين في كل مكان في العالم، يجعلون متاحف يضعون فيها كتب المسلمين.
فوزعت كتب المسلمين على العالم كله، فإذا أنا الآن أريد أن أحقق كتاباً مثل الاعتصام للشاطبي: أولاً: أبحث في الخزانة المصرية، تجد أن عندنا دور مخطوطات في مصر، وهي: مكتبة البلدية، والإسكندرية، ومكتبة فؤاد للمخطوطات، ودار الكتب المصرية، والمكتبة الأزهرية، ومعرض المخطوطات، وكان هناك معرض المخطوطات في الجامعة العربية وأخذوها منا لما نقلوا الجامعة العربية إلى تونس، وهناك دار للمخطوطات بالمنصورة، فهذه الدور تجمع المخطوطات القديمة التي هي لأسلافنا.
اليوم مثلاً: كتاب صحيح ابن حبان كبير وهو قريب من صحيح ابن خزيمة وشبيه بصحيح البخاري، فأريد أن أحققه، فأذهب أبحث في كل الدور في مصر أولاً، وأنظر في الفهارس العلمية، فأجد أنهم يقولون: موجود من صحيح ابن حبان -وهو تسعة مجلدات- موجود منه أربعة مجلدات، المجلد الأول ضاعت منه ثلاث ورق، والمجلد الثاني فيه خرم أزال مثلاً ورقتين أو ثلاثاً، والمجلد الرابع المقدمة ساقطة منه، فأجد أن الكتاب غير مكتمل، فلا أستطيع أن أحقق هذا الكتاب، فألتمس له نسخة كاملة، فأذهب أبحث في مكتبات العالم عن نسخة كاملة لصحيح ابن حبان، فأذهب مثلاً إلى باريس فأجد ثلاثة مجلدات فقط هي الموجودة من الكتاب والباقي غير موجود، لكن المجلد الأول الذي هو ناقص عندي منه أربع ورقات أجدهن في المجلد، وهذا المجلد ضاعت منه عشر ورقات وفي الآخر أجدها عندي في مجلدي، فأتعب تعباً شديداً حتى أستطيع أن أحصل نسخة صحيحة موثقة كاملة لصحيح ابن حبان.
بعد ذلك لابد أن أكون دارساً للخطوط القديمة؛ لأن قواعد الإملاء تغيرت عن القديم، فإلى نهاية القرن الثالث الهجري أو جزء من القرن الرابع كانت مسألة التنقيط هذه غير منتشرة، فكان الكاتب يكتب ولا يضع نقطاً، وكانوا يفهمون؛ لأن هذه هي طريقة الإملاء عندهم.
مثلاً: كتاب علل الدارقطني الموجود في دار الكتب المصرية، إذا فتحت الكتاب لا تجد ولا نقطة واحدة، وأعطيكم مثالاً واحداً فقط، هذا الشكل (عين، راء) هل هو: نمر، أو نمس أو ثمر أو تمر أو غنس أو غير أو غيض أو غضب، لا أعرف النقط أين موضعها؟ فحينئذٍ لا تستطيع أن تخرج كتاباً مخطوطاً لأجل أن تقدمه للمطابع إلا إذا كنت عليماً بالطريقة القديمة للإملاء، وهذه لها قواعد ولها كتب.
إذاً: على كل رجل محقق أن يكون دارساً، كل هذا الهم الكبير، وكلمة (هم) ليس معناها الهم المرادف للغم، إنما الهم الذي يبعث الهمة، كما قال تعالى: {هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف:24] .
فيجب أن أدرس كل هذا قبل أن أكتب خطاً واحداً، أو قبل أن أكتب سوداء في بيضاء كما يقولون.
فبعدما يكون عندي كل هذه الأصول، أبتدئ أنظر، هذا الكتاب له نسخة أو نسختان أو ثلاث؟ إن كان له أكثر من نسخة فيجب أن أسعى لأن آتي بجميع النسخ.
فإذا توفر لدي خمس نسخ مخطوطة من كتاب مثل: الاعتصام، لابد أن أجعل من الخمس النسخ نسخة تكون هي الأصل الذي أعتمد عليه والنسخ الباقية شواهد لها.
وتحديد النسخة الأصل يكون بالنظر إلى أقدم نسخة، بأن يكون مكتوب عليها تاريخ قديم، وتكون أقرب النسخ للمؤلف، وكلما كانت النسخة مكتوبة في زمن قريب إلى زمن المؤلف كانت أشد ثقة وتوثيقاً من النسخة المتأخرة.
إذا كان الشاطبي توفي مثلاً سنة ستمائة وخمسة وستين فإذا كانت النسخة التي أمامي مكتوبة سنة ستمائة وثمانين والنسخة الثانية مكتوبة سنة سبعمائة وعشرة فنسخة سنة ستمائة وثمانين هي التي يجب أن اعتمدها أصلاً للنسخة المتأخرة، وكلما اختلفت النسخ مع بعضها أقدم سياق النسخة الأم.
فيظل الباحث شهراً وشهرين وثلاثة وسنة وسنتين وثلاثاً وساعات كثيرة في كتاب واحد، فتأتي أنت تأخذه وتشتريه وتضعه على الرف، وتنفخ عنه التراب كل شهر، ولا تستفيد منه، ولا تعرف كم بذل في هذا الكتاب من مجهود حتى وصل بين يديك مطبوعاً، فالتحقيق هذا أصعب من أن يؤلف المرء كتاباً من جديد، فالواحد خير له أن يؤلف عشرة كتب ولا يحقق كتاباً مخطوطاً واحداً.
الذي يحصل أن الشيخ محمد رشيد رضا مثلاً يعثر على نسخة من كتاب الاعتصام فيبذل الوسع في تحقيقها، ويكون في آخر النسخة أو في آخر صفحة كلمة، ولم يجد ورقة بعد ذلك، والكلام يفترض أن يكون متصلاً، فيرجح أن هناك سقط ورقة أو ورقتين أو ثلاثاً من آخر الكتاب.
وأحياناً يكون الكتاب كاملاً ولكن لم يضع سماعات، ولا قرأنا الكتاب على فلان، والحمد لله رب العالمين، مثلما يختمون كتبهم، فيترجح لدى الرجل أن هذا الكتاب إما تم أو لم يتم، فحينئذٍ لا يجوز أن نشك بالكتاب، ولكن نقف على ما حدده المحقق.
الشيخ محمد رشيد رضا قال في نهاية الكتاب: إن هناك بعض الورقات ذهبت، أو أن النسخة غير كاملة مثلاً، فيبقى أن يستفاد من هذه النسخة، ولكن إذا وجدت أحد العلماء نقل نصاً عن كتاب الاعتصام ولم تجده في كتاب الاعتصام فينبغي أن تستحضر كلمة الشيخ محمد رشيد رضا لعل هذا يكون من الورقة التي سقطت.
وحينئذٍ يجدر بالباحث أو القارئ إذا وجد كلاماً نسب إلى كتاب ما وليس في الكتاب، أن يدونه على حاشية الكتاب؛ لأنه من الممكن أن يكون سقط من النسخة شيء، أو من الممكن أن الذي نقله وهم في اسم الكتاب.
هذه نبذه -مختصرة- عن تحقيق الكتب القديمة.