كان الإمام مالك بن أنس رحمه الله يذهب إلى دار شيخ له يسمى شعبة، فيسمع الحديث مع الطلاب، يملي شعبة الحديث وهم يكتبون، فأراد مالك أن ينتهز فرصة ويسمع الحديث من شعبة وحده؛ لأنه من معلوم لدينا جميعاً أنه في أي مدرسة كلما كان عدد الطلاب أقل كلما كانت الاستفادة أكثر؛ حيث يستطيع المدرس أن يجيب على تساؤل كل طالب، ونحن الآن نعاني إفلاساً حتى في التعليم الدنيوي، فتجد المدرج فيه سبعة أو ستة أو أربعة آلاف، فلو عرضت لأي طالب مشكلة كيف يجيبه المدرس؟ فالمدرس يقول: ما عنده فهم الطالب أو لم يفهم، فكلما قل العدد كلما كانت الاستفادة أكثر، فالإمام مالك يريد أن ينفرد بـ شعبة، فماذا يفعل؟ صلى صلاة العيد، والناس في العادة ينصرفون إلى بيوتهم بعد صلاة العيد، إلا أنه ذهب إلى دار شعبة، فما طرق الباب، بل قعد على درج البيت على السلم، وهذا مالك، الإمام الذي ما يقارب ثلث الأمة على مذهبه، وجعل الله له لسان صدق في الأمة، كلما ذكر ترحم الناس عليه، لم يطرق باباً ولم ينادِ إنما قعد على درج البيت.
قال شعبة لجاريته: انظري من في الباب يأكل معنا، وكانت أبوابهم مفتحة لا يمنعون مسكيناً.
فخرجت الجارية ثم رجعت تقول: يا سيدي مالك في الباب.
فقال: ادخل، فدخل.
قال: كل.
قال: ما لهذا جئت.
قال: حاجتك؟ قال: أريد الحديث.
قال مالك: فحفظت عنه في هذا المجلس أربعين حديثاً.
فانظر لأدبه، لا يطرق باباً ولا يزعجه، احتراماً للشيخ ولعلمه.
كذلك أيضاً ابن عباس مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكمل العشرين من عمره بل كان سنه ثماني عشرة سنة، فكان يذهب إلى أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الكبار أمثال زيد بن ثابت، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان، قال ابن عباس: (فكنت أذهب إلى بيوتهم، فربما تلسعني شمس الظهيرة، فلا أطرق على أحد منهم الباب، فإذا رآني قال: يا ابن عم النبي لِمَ لم تطرق الباب لم لم تخبرني فآتيك؟ لشرف آل البيت.
فيقول ابن عباس: (بل أنا آتيك، حق العالم على المتعلم) ويحكي لنا رجل أنصاري قال: (قال لي ابن عباس يوماً: ألا تأتي فنسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون، فقال الأنصاري يهزأ بـ ابن عباس: أتظن يا ابن عباس أنه سيأتي اليوم الذي يحتاج فيه إليك، وأصحاب النبي كثر؟!) كأنما يحقر شأن ابن عباس، يقول: هل تظن أنه في يوم من الأيام سيحتاج الناس إليك، مهلاً يا ابن عباس.
قال ابن عباس: (ولم يطاوعني، فذهبت أسأل وأستفيد، فما مات الأنصاري حتى كانت لي حلقة) صار إماماً يفتي.
فلما رآه الأنصاري قال: (أفلح الرجل) .
قصر هو فلم يذهب معه، ولم يقف في حر الظهيرة ينتظر العالم، مع أن هؤلاء الناس الأفاضل كان إذا ترك الواحد منهم عالماً وجد غيره.