الفلسفة عن طريق العلم، وذلك بدراسة ما بين الأشياء من علاقات في المكان، أو أن نطلبها عن طريق التاريخ بدراسة ما بين الحوادث من صلات في الزمان، وفي مقدورنا أن نعرف عن طبيعة الإنسان بدراسة سلوكه وأعماله في خلال ستين قرنًا من الزمان أكثر مما نعرفه عنها بقراءة مؤلفات أفلاطون وأرسطو، وسبنوزا وكانت وما أصدق قول نتشة في هذا المعنى: "ما أضيع الفلسفة كلها أمام التاريخ في هذه الأيام" (?).
وإن دراسة الماضي لتعد بحق عديمة النفع إذا لم يجعل هذا الماضي مسرحية حية، أو إذا لم تضيء لنا دراسة ظلمات حياتنا الحاضرة. أليس قيام مدينة روما وارتقاؤها من بلدة صغيرة في مفترق الطرق حتى سادت العالم المعروف وقتئذ، وما أسبغته من أمن وسلام على رقعة واسعة من الأرض تمتد من جزيرة القرم إلى مضيق جبل طارق، ومن نهر الفرات إلى سور هدريان، وما نشرته من أصول الحضارة القديمة في عالم البحر الأبيض المتوسط وفي غرب أوربا، وما قامت به من كفاح للاحتفاظ بملكها المنظم من أن تطغى عليه بحار الهمجية التي تكتنفه من كل جوانبه، ثم تصدعها الطويل البطيء، وانهيارها آخر الأمر، وترديها المشئوم في ظلمات الجهالة والفوضى، أليس هذا كله أعظم مسرحية مثلها الإنسان، اللهم إلا إذ ظننا أن أعظم منها وأكثر روعة تلك المسرحية الأخرى التي بدأت حين وقف قيصر والمسيح وجهًا لوجه في ساحة بيليت Pilate والتي دامت حتى أضحت حفنة من المسيحيين المضطهدين المطاردين بما أوتيت من صبر وجلد وما قاست من اضطهاد وما حل بها من رعب وهول، نقول حتى أضحت هذه الحفنة من المسيحيين في بداية الأمر حليفة لأعظم إمبراطورية في التاريخ، ثم سيدتها، ثم وريثتها بعد تصرم أجلها.