ينزل ميدان السياسة بوجه عام وحين يقدم على أي عمل سياسي بوجه خاص، يستعد له أكمل استعداد، فلا يتردد في أن يمضي في أي عمل تفرضه عليه قواعد التربية الحقة، لا يتكلم إلا قليلاً، ولا يطيل الكلام، ويدعو الآلهة أن تمسك لسانه فلا ينطق بأي كلمة لا تمت بصلة قوية للموضوع الذي يتكلم فيه. وكان الناس كلهم ومنهم الشعراء الهزليون الذين يحقدون عليه، يسمونه "الأولمبي" الفصيح اللسان الذي لم تسمع أثينة قبله مثل فصاحته في قوتها وعظيم تأثيرها، ومع هذا فالمؤرخون كلهم مجمعون على أن خطبه كانت خالية من الانفعال، تتأثر بها العقول المستنيرة. ولم يكن نفوذه مستمدا من ذكائه فحسب، بل كان مستمداً كذلك من صلاحه واستقامته، ولم يكن يستنكف أن يستعين بالرشا ليحصل للدولة على أغراضها، أما هو نفسه فكان "بلا جدال مبرئاً من جميع ضروب الفساد وأكبر من أن يهتم بالمال" (11). ويحدثنا المؤرخون أن بركليز لم يضف طوال حياته العامة شيئاً ما إلى ما ورثه من أبيه، على حين أن ثمستكليز تولى المناصب العامة وهو فقير وخرج منها وهو واسع الثراء (12). ومما يدل على فطنة الأثينيين وحكمتهم في ذلك العهد أنهم ضلوا خلال ثلاثين عاماً أو نحوها بين 467 و428 ينتخبونه ويجددون انتخابه - ما عدا فترات قصيرة - ليكون واحداً من الاستراتجوى أي القادة العشرة، وكان بقاؤه في منصبه هذه المدة الطويلة نسبياً مما جعله صاحب السلطة العليا في المجلس العسكري، وأمكنه أن يجعل منصب الاستراتجوس أو توكراتور أي القائد صاحب السلطة أعلى المناصب الحكومية شأناً وأعظمها سلطاناً. وحصلت أثينة في أيامه على فوائد الحكم الأرستقراطي والدكتاتوري، وإن كانت قد استمتعت أيضاً بجميع مزايا الدمقراطية. فقد بقي لها ما كان يزدان به عهد بيسستراتس من حكم صالح وعمل على نشر الثقافة وتشجيعها، واجتمع لها ما كان في عهد بيسستراتس من حسن توجيه، وفرط ذكاء، وسرعة البت في الشئون العامة، مضافة إلى رضاء المواطنين الأحرار رضاءً كاملاً يظهرونه عاماً بعد