ويلاحظ القارئ أن الثورة الفرنسية كانت حريصة على أن يكون لها ثلاثة شعارات (حرية وإخاء ومساواة) وكان ذلك لإحلالها محل الأقانيم المسيحية الثلاثة (آب وابن وروح قدس) وكانت حريصة على التخلص من التقويم المرتبط بميلاد المسيح عليه السلام، فابتدعت تقويما جديداً، كما كانت حريصة على إقامة مهرجانات لتوقير الكائن الأسمى أو الموجود الأعلى Supreme being، وبعض الثوار مزقوا الأناجيل· وتحدثوا عن "خرافات" العهدين القديم والجديد، وبالغ بعضهم في ذلك، وفي وقت من الأوقات شكلت لجان لضبط السلوك، وجرت محاولة لإغلاق بيوت الدعارة··· لقد كانت لجانا شبيهة بلجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنها لم تستمر فقد كانت هناك قوى أخرى ذات بأس أشد· نخلص من هذا إلى أن الثورة الفرنسية كانت في جانب من جوانبها استمرارا لحركة الإصلاح الديني التي انطلقت في أوروبا منذ القرن السادس عشر، وأن عداوة الثوار للكنيسة كانت أكثر بكثير من عداوتهم للملكية، وقد عادت الملكية بالفعل، وطالب بها كثيرون، لكن الكنسية لم تعد أبداً لسابق هيمنتها، ولم تسترد أبداً أموالها وأوقافها·
وركز الباحثون العرب على معاداة الثوار للملكية، لكنهم أغفلوا الشق الثاني والأهم وهو امتعاضها من الإكليروس أو رجال الدين المسيحي، وبسبب هذا التركيز لم تحظ الثورة الفرنسية بالدراسة المتأنية الشاملة الحصيفة في عالمنا العربي، لأسباب لا تخفى، وهذا الكتاب يسد هذه الثغرة· وإذا كان مما زاد من أهمية الكتاب أن مؤلفه قد كتبه وهو في السبعينيات من عمره، فلعلّ مما يزيد من أهمية هذه الترجمة أن المترجم قد أنجزها وهو في الخامسة والخمسين من عمره، وأظنه سنا يسمح بالبحث عن المعاني وعدم الاكتفاء بظاهر الحرف أو الكلمة·
بقي الحديث عن مصطلح آخر أسيء نقله إلى العربية أيضاً، ذلك أن الفرنسيين في هذه الفترة كانوا يطلقون لفظ philosophes أو الفلاسفة تجاوزا، على طائفة من الخطباء والمثقفين والأدباء ليسوا بالضرورة "فلاسفة" بالمعنى الضيق للكلمة philosophers، ومن هنا فترجمة المصطلح philosophes في هذه الفترة بالذات لا يعني أكثر مما نعنيه بقولنا "مفكرين" أو "مثقفين"····الخ·