لا على تفسير الخيال والذاكرة فحسب كما فعل هوبز ولوك من قبل قصور الإحساس على أنه في بدايته تموج في جزيئات عصب يثيره جسم خارجي، ثم لى أنه انتقال هذا التموج على هذا العصب إلى المخ، على نحو "انتشار الأصوات الطليق على صفحة الماء" (132). وقال إن المخ كتلة من الخويطات العصبيه تموجاتها هي متلازمات الذكريات، يثير خويط أو أكثر منها تموج وافد مرتبط به في الخبرة الماضية؛ وهذا التموج هو الملازم الفسيولوجي للفكرة. فلكل حالة عقلية ملازم بدني، ولكل عملية بدنية مرافق عقلي أو عصبي؛ وترابط الأفكار هو الجانب العقلي لترابط التموجات العصبية الذي يحدثه تجاورها أو تعاقبها في خبرة ماضية. على أن الصورة الفسيولوجية التي رسمها هارتلي كانت بالطبع شديدة التبسيط، ولم تمس قط لغز الوعي، ولكنها شاركت في إقناع أقلية صغيرة من الإنجليز بفكرة فناء عقولهم.
تناول قسيس آخر يدعى إتيين بونو دكوندياك مشكلات الذهن من جانب سيكولوجي خاص. وقد ولد في جريوبل (1714)، وتعلم في مدرسة لاهوتية لليسوعيين بباريس، ورسم قسيساً. فلما سمح له بالاختلاف إلى صالوني مدام دتانسان ومدام حيوفران، التقى بروسو وديدرو، وفقد حماسته الدينية، وهجر كل وظائفه الكهنوتية، وكرس نفسه للعبة الأفكار. فدرس المذاهب التاريخية للفلسفة ورفضها في كتابه "رسالة في المذاهب" (1749) الذي نطق بروح "الفلاسفة" فقال إن كل هذه الصروح المتعالية من أنصاف الحقيقة إنما هي تفرعات كثيرة كلها أوهام انتشرت من معرفتنا المبتورة للكون؛ وفحص جزء من التجربة بالاستقراء خير من التدليل على الكل بالاستنباط.
وقد حذا كوندياك في كتابه "مقال في أصل المعارف البشرية" (1746) حذو لوك في تحليليه للعمليات العقلية، ولكنه في أنجح كتبه "مقال في الأحاسيس قبل رأياً أكثر تطرفاً-وهو أن "التأمل" الذي تبين فيه لوك مصدراً ثانياً للأفكار، هو مجموعة أحاسيس، هي المصدر الوحيد لكل الحالات العقلية. إن هناك عالماً خارجياً، لأن أهم حواسنا وهي اللمس تلقى مقاومة؛ ومع ذلك فإن كل ما تعرفه هو أحاسيسنا والأفكار التي تولدها.