كل صبح، ويقتنص تغيرات الضوء والظل التي تحدثها كل بوصة طالعة من الشمس. لم يكن الضوء عند كلود مجرد عنصر في الصورة، إنما كان موضوعه الأهم، ومع أنه لم يحب-كما أحب تيريز-أن ينظر في عين الشمس ذاتها، فإنه كان أول من درس ونقل غلاف الضوء المنتشر. وقد التقط حركة الهواء غير الملموسة على الحقول، وورق الشجر، والماء، والغمام، كانت كل لحظة من السماء جديدة، وبدا أنه عقد نيته على جعل كل لحظة سائلة تسكَّن نفسها في فنه. وقد أحب ارتعاش القلوع وهي تقابل الريح، وجلال السفن وهي تمخر البحر. وأحس فتنة المسافات، ومنطق المنظور وسحره والحنين إلى رؤية لانهائية الفضاء وراء المرئي.
كانت المناظر الطبيعية لذته الوحيدة. ثم أدخل التراكيب الكلاسيكية في صوره عملاً بنصيحة بوسان-كالمعابد، والخرائب، وقواعد الأعمدة- ربما ليضفي وقار الشيخوخة على المشهد العابر. وافق على إضافة بعض الوجوه البشرية إلى مشهد الطبيعة العريض، ولكن قلبه لم يكن في هذه الزوائد. فهذه الوجوه، «أضيفت دون مقابل»، فكان «يبيع مناظره الطبيعية، ويهب وجوهه (148)». وكانت العناوين والقصص التي توحي بها هذه الوجوه تنازلات منه للعقول التي لم تستطع الإحساس بمعجزة الضوء وسر الفضاء دون جمال الأسطورة المسيحي أو بغير بطاقة من القصص الكلاسيكية. أما الواقع فهو أن كلود كان له موضوع واحد لا سواه- عالم الصباح، والظهر، والمساء. وقد وهب متاحف أوربا تنويعات حبيبة من الصور، لا تعنى أسماؤها شيئا، ولكن في وحدة وجودها تزاوج صوفي بين الشعر والفلسفة.
وقد نسلم لرسكن (149) بأن كلود وبوسان يرياننا الطبيعة على نحو خداع وهي في حالاتها الأرقّ، غافلين عن جلالها، مغفلين نوبات تدميرها الرهيب. ولكن بفضل جهودها أرسى تقليد عظيم في رسم المشهد