غائباً عنها عشرة أعوام. وكنت أرى والديّ يبتعدان عني ويتكلمان همساً بلغة غير اللغة الإسبانية لا أعرفها ولا أفهمها، فإذا دنوت منهما قطعا الحديث وحوّلاه، وأخذا يتكلمان بالإسبانية، فأعجب وأتألم، وأذهب أظن في نفسي الظنون، حتى إني لأحسب أني لست ابنهما وأني لقيط جاءا به من الطريق، فيبرح بي الألم، فآوي إلى ركن في الدار منعزل، فأبكي بكاء مراً.
وتوالت علي الآلام فأورثتني مزاجاً خاصاً يختلف عن أمزجة الأطفال الذين كانوا في مثل سني؛ فلم أكن أشاركهم في شيء من لعبهم ولهوهم، بل أعتزلهم وأذهب فأجلس وحيداً، أضع رأسي بين كفيّ وأستغرق في تفكيري، أحاول أن أجد حلاً لهذه المشكلات، حتى يجذبني الخوري من كم قميصي لأذهب إلى الصلاة في الكنيسة.
وولدت أمي مرة، فلما بشرت أبي بأنها قد جاءت بصبي جميل لم يبتهج، ولم تَلُحْ على شفتيه ابتسامة، ولكنه قام يجر رجله حزيناً ملتاعاً، فذهب إلى الخوري فدعاه ليعمّد الطفل، وأقبل يمشي وراءه وهو مطرقٌ برأسه إلى الأرض، وعلى وجهه علائم الحزن المبرح واليأس القاتل، حتى جاء به إلى الدار ودخل به على أمي ... فرأيت وجهها يشحب شحوباً هائلاً وعينيها تشخصان، ورأيتها تدفع إليه الطفل خائفة حذرة ... ثم تغمض عينيها. فحرت في تعليل هذه المظاهر، وازددت ألماً على ألمي.
حتى إذا كان ليلة عيد الفصح، وكانت غرناطة غارقة في العطر والنور، والحمراء تتلألأ بالمشاعل والأضواء، والصلبان