الذي تحتويه غرفته ملك أو وزير، عاد يسأل متثبتاً: إذن فهو من أصحاب أحمد بن حنبل؟
قال: نعم؛ ولبث على ذلك حتى رفع الله المحنة وولى الأمر المتوكل، فأحيا المذهب الحق، مذهب أهل السنة، وأمات البدعة، وجزى الله أحمد بما صبر. فكان - كما تعرف وأعرف - إمام الأمة، وأيّد الله به الدين كما أيّده بأبي بكر يوم الردة، فصار يَعرف لهذا الرجل حقه ويقول لأصحابه: هذا يقع عليه اسم طالب العلم.
قال الفندقي: جزاك الله يا ابن سعيد خيراً؛ فقد عرّفتني حقه، فهلمّ بنا إليه.
كان بقيّ بن مخلد الأندلسي وحيداً في غرفته، يتقلب من الألم ويتلوى من الحمى، قد طحطحه المرض وهدّته الأوجاع فما أبقت منه إلا هيكلاً كالقناة الجوفاء يتردد فيها الهواء، ولَمَا يشكو من الحنين إلى بلده والتشوق إلى أهله أشد عليه من كل ذاك.
ولم يكن في البيت إلا لبد اضطجع عليه ووسادة ألقى عليها رأسه، وكتبه مبثوثة من حوله ما يدعها، إذا أدركه انتباه نظر فيها، فإذا غاب عنه مِن الوجع عقله تركها في مكانها. فلما دخلا عليه ألفياه يقرأ في صحيفة في يده. فجلسا ساعة يؤنسانه، فما شعرا إلا ضجة تدنو حتى حسباها قد استقرت في الفندق، فنظرا من الشبّاك فإذا الرحبة والطرق التي تؤدي إليها ما فيها موطئ قدم خلا من إنسان، فاضطرب الرجل ونزل يسأل أنْ ماذا جرى؟ فما أحس إلا الناس يقولون: لقد أتى ... هو في الطريق. فأيقن أنه الخليفة،