وأمّ أهل مكة الحرم، ولم يبقَ في داره إلا شيخ في السادسة والثمانين، وانٍ محطم ما عليه إلا قميص مشدود بحبل، وقاموا للصلاة ما يستطيعون الوقوف مما حشوا به بطونهم من طيبات الطعام؛ من كل حلو وحامض وحار وبارد وسائل وجامد، ووقف هو يصلي وما يستطيع القيام من الجوع؛ فقد أمسك للصوم بلا سحور، ونام ليلته البارحة بلا عشاء، وأمضى أمسه من قبلها بلا غداء ... فلما قضى صلاته قعد في محرابه منكسراً حزيناً. وما كان يفكر في نفسه، فلقد طال عهده بالفقر حتى ألفه، وهون إيمانه الدنيا عليه حتى نسي نعيمها وازدراها، ولكنه كان يفكر في هذه البطون الجائعة من حوله (وهو كاسبها ومعيلها) وهذه المناكب العارية. ولو كان في مكانه رجل آخر قاسى الذي قاساه، ورأى الأغنياء يبذرون المال تبذيراً ويضيعون الألوف في الباطل على حين يحتاج هو إلى الدانق (?) فلا يجده، لثار على الدنيا وذمّ الزمان وحقد على الناس. ولكنه كان رجلاً مؤمناً موقناً أن الله هو الذي قسم الأرزاق، فأعطى - لحكمة يعرفها - ومنع، وأن الناس لا يملكون عطاءً ولا منعاً، وأن ما كان لك سوف يأتيك على ضعفك وما كان لغيرك لن تناله بقوتك؛ رُفعت الأقلام وجفت الصحف.
فقال: إهْ؛ الحمد لله على كل حال!
وقام فنزع القميص، ونادى: يا لبابة.
فجاءت امرأة ملتحفة بخرقة قذرة، فدفع إليها بالقميص وأخذ الخرقة فالتفّ بها.