قصص من التاريخ (صفحة 254)

ذلك الذي كتبه العرب المسلمون في ثمانمئة سنة، فمحاه الإسبان في سنوات، ولم يبق إلا هذا السطر، فإذا طُمس ذهب السفر وباد. وقد كان موسى آخر نفَس من أنفاس الحياة في الأندلس المسلمة، فإذا وقف هذا النفَس الواحد وسكن هذا الذماء الباقي صارت الأندلس المسلمة أثراً بعد عين، وصارت ذكرى عزيزة في نفس كل مسلم وأمانة في عنقه إلى يوم القيامة.

* * *

وانطلقت من أعالي الأسوار أن: "لقد عاد موسى"، فتقاذفتها الألسن وتناقلتها الآذان، فطارت في أرجاء المدينة وسارت في جوانبها مسير البرق، فبلغت الساحات والدروب، وولجت الدور والمنازل، وأوغلت خلال البيوت والسراديب، فلم تلبث أن نفضتها نفضاً فألقت بأهليها إلى الأزقة والشوارع، فإذا هي ممتلئة بالناس من كل جنس وسن ومنزلة، وإذا هي تزخر بهذا النهر الإنساني الذي يجري صوب الأسوار صخّاباً جيّاشاً مُزبداً، يتحدر ويسرع مجنوناً كأنما تدفعه قوة خفية هائلة احتوتها الكلمات السحرية «المكهربة» الثلاث: "لقد عاد موسى"!

لقد كان يوماً من الأيام الغر التي تضيء الطريق لمن يسلك فجاج التاريخ، وتجيء في الليالي كالعبقري في الناس، وتصنع العجائب لتكون معجزة في الزمان، ما شهدت مثله غرناطة، ولا أبصرت منه (إلا قليلاً) عين الوجود! إنه يوم أضاع فيه الناس غريزة المحافظة على الذات في غمار غريزة النوع، ونسوا نفوسهم ليذكروا الدين والوطن، وانبتّوا من الحاضر المقيت ليعيشوا في

طور بواسطة نورين ميديا © 2015