وكانت تتخيل كأن شخصاً قد ألمّ بها فتصرخ فيه: من أنت أيها الوغد؟ فيبتلع الصمت صيحتها ولا تسمع من مجيب، فتعود إلى تجرع آلامها وأحزانها.
وإنها لفي مقامها على القبر في وسط ليلة ساكنة، وإذا هي بيد تلمسها لمساً رفيقاً، فيذكّرها مسها بعالَم غامض يفيض باللذة والأنس، ويردها إلى ماضٍ بعيد لا تتبينه ولا تعرفه؛ عالم عبد الله والزبير، فتحاول أن تمسك بهذه اليد لترفعها إلى شفتيها، فإذا هي لم تمسك إلا الهواء. فيختلط عليها الأمر وتتعوذ بالله، وتمد يديها إلى كل جهة تتلمس صاحب هذه اليد فلا تقع يدها على شيء ... ثم تشعر بصوت مستمر يطنّ في أذنيها، ثم يقوى حتى يشبه هزيع الرعود، ثم يستحيل إلى ضجة هائلة تحسب أن الأرض لم تسمع مثلها. وتشعر بزلزال عظيم، فتميد بها الأرض وتهتز بشدة وعنف، ثم تحس بيد تقبض على خناقها، وتطير بها مع الرياح الأربع، لا بل الرياح الأربعين، فتحوم في أرجاء الكون بسرعة البرق الخاطف حتى تصير الدنيا كلها خلاء في نظرها، لأن نظرها لا يستقر على شيء. ثم تلقيها هذه اليد في أعماق هوة سحيقة فلا يبقى عضو من أعضائها إلا أصابه كسر أو حطم، وتجتمع عليها البرودة القاتلة والصمت المرعب والظلمة المتكاثفة، فلا تعي من بعدها شيئاً.
ولكنها تستفيق على صوت محبب إلى نفسها، يذكّرها جَرْسه ورنينه بعوالم تعرفها وتحبها، فإذا هي في دنيا عبد الله، قريبة منه، بل تسمع صوته يدعوها. يدعو أمه بأحب الأسماء إليها، فتمد يديها تمسح دمعة الفرح، فإذا هي مفتحة العيون تبصر عالماً من