وراحت تنشج نشيجاً أليماً حتى لقد ظن أنها ستشرق بدمعها، وخال روحها ستزهق في نشيجها، وأحس كأن قلبه يُقطع بسكين، ونسي الحرب والنضال وهمّ بأن يلقي نفسه بين ذراعيها كما فعل في ليلة الأمس، ثم يحملها إلى بقعة من أرض الله الواسعة تقضي فيها لياليها الباقيات. ثم يرده الحفاظ والدين وهذه الغاية التي باع نفسه من أجلها.
وكان يسمع اسمه يرتجف في غضون الزفرات يخرج بصوت مكلوم، يلهب قلبه كأن فيه قبساً من قلبها المحترق، فخاف أن يغلبه ضعفه البشري، وانتهى إلى أذنيه هتاف أهل الشام وقد أقبلوا كرة أخرى كما يقبل البحر بمده على الساحل بعد أن نأى عنه في جَزْر طويل، فترك مكانه حيال أمه وذهب يستقبل الموت، وقد مات من قبل مراراً.
* * *
وكان في شعب من شعاب مكة النائية عن الحرم شيخ جليل قد اعتزل الحرب هو وأصحابه، لأن دينه لم يبح له أن يحارب أبناء دينه ومروءته تمنعه من تجريد سلاحه في وجوه إخوانه، وذهب ينتظر في هذا الشعب النائي.
كان عبد الله بن عمر معتزلاً، يحسر لأصحابه عما يخامر نفسه من ألم لتفرق المسلمين، ويحدثهم حديث الرسول الذي جاء بالإسلام فألف بين القلوب وجمع الناس جميعاً، ويرقب انكشاف هذه الغمة. فسمع التكبير (ظهر يوم الثلاثاء 17 جمادى الأولى سنة 74) يتجلجل في حلوق الشاميين، فاسترجع ومد يده إلى