ورجع عبد الله إلى الحرم - وقد خلت ساحته إلا من الحجارة التي نثرتها المنجنيقات من جدار الكعبة، وأشلاء القتلى ودمائهم، وهذه البقية الباقية من جنده - يغلب عليه الألم لما حل بالمسلمين، وعزف عن الطعام والشراب فلم يفكر فيهما، ولا في الراحة المسعدة إثر هذا الجهد الحاطم، وإنما أقبل يريد أن يصلي في ظل الكعبة فيناجي ربه ويستغفره ويودع دنياه. ولكنه لم يدنُ من الحطيم حتى وقف مرتجفاً قد اهتز من مفرقه إلى قدميه كما تهتز القصبة في الريح النكباء، وفتح عينيه يحدق. إنه لا يشك في أنها هي ...
يا إلهي! ما الذي جاء بها إلى هنا؟
ودنا منها متلصصاً يمشي على رؤوس أصابعه، فإذا هي صامتة جامدة لا تتحرك ولا تنبس. أهي ميتة؟
واقترب حتى حاذاها، فأحسست به وصاحت: من أنت؟
فلم يجب، فعادت تصرخ: من هذا الذي يمد يده إلى امرأة عجوز؟ ويلكم، أما كفاكم أن دفعت إليكم ابني لتقتلوه؟ آه! أين أنت يا عبد الله؟
وسمعها تبكي بكاءً خافتاً فتحرك، فعادت إلى تصريخها: قلت لك ابتعد أيها الوغد، أنسيتم أخلاقكم ومروءتكم واستبدلتم بها هذه الأخلاق التي ترى البطولة في البطش بعجوز عمياء لا تريد أن تؤذي أحداً؟ آه لو أن عبد الله كان حياً! أين أنت يا عبد الله؟ عبد الله ...