ولم يكن يكلفها ذلك إلا همساً خافتاً يعلم منه موضعها، فكادت تهمس باسمه، وقويت هذه الرغبة في نفسها حتى لقد توهمت أن ابنها قد دلف إليها يعانقها، فمدت يديها تعانقه فسقطتا على جنبيها ... وكان قلبها يرتفع في صدرها حتى يبلغ حنجرتها ويذوب حزناً وكمداً، ويسيل من عينيها المنطفئتين قطرات من الدمع ... ولكنها لبثت ساكنة صابرة على قضاء الله.
* * *
انفتل هذا الشيخ من صلاته وقد رقّ الظلام وانبعثت فيه أشعة الفجر فأراقت على الحرم ظلالاً من النور، فاستطاع أن يتأمل في أصحابه الذين لبثوا على وفائهم له لم يخذلوه كما خذله ابنه حمزة، فمرت على وجهه سحابة من غم حين ذكر أن حمزة قائم في هذه الساعة تحت رايات الحجاج ينتظر أن يرى أباه معلقاً على خشبته ليرقص في مأتمه ويظفر بأسلابه، وكاد يجاري غضبه ويقذفه بلعنة حمراء تتسلسل في أصلاب ذريته فلا ينجو من جناها المسموم أحد منهم، ولكنه أمسك ولم يحب أن يكسب أولاده هذا الشر المستطير في آخر لحظة من حياته.
وجعل ينظر إلى هؤلاء الفتية فيروقه شبابهم المزهر، ويضن بهذا الصبا الغض على الموت، ويعلم بأنه ميت لا ينفعه دفاعهم شيئاً، فأرادهم على الحياة وزينها لهم، وابتغى إلى إقناعهم شتى السبل وأفانين الأساليب، فأبى وفاؤهم ومروأتهم ودينهم (وما كانوا يعتقدون من ضلال الأمويين) إلا الموت. فرقّتْ نفس هذا الشيخ وغمرها الحب والرضا، فأحب أن ينظر إلى هذه الوجوه