قصص من التاريخ (صفحة 221)

الفجر، وكان محتفظاً بعظمته وجلاله، فكأن هذا الفشل المتتابع وهذه الخيبة الشاملة لم تنل منه قليلاً ولا كثيراً. وكان جنده الأوفياء ينظرون إليه فيعزيهم بجلده واحتماله، وتسري فيهم هذه العزة فيطوون جوانحهم على قلوب ملؤها القوة والأمل. وهل في الدنيا أقوى من عُصبة تريد أن تموت؟ إن العدو يفزعها بالموت والموت أكبر أمانيها، فكأن عدوها خادم لها مسخَّر لرغباتها؟

ودوى صوت المؤذن قوياً ضخماً، فجاوبه من تلك الأوعار صوت آخر واضح قوي: الله أكبر! الله أكبر!

* * *

الله أكبر من هذا الجيش وهذه الدنيا، ولكن هؤلاء قد نسوا معاني «الله أكبر» وأضاعوا جوهرها.

ذلك ما كانت تناجي به نفسها هذه العجوز وراء سور الحرم. وكانت قد أوت إلى هذه الزاوية لتودع ابنها، وتحتفظ بذكرياته الأخيرة، وتسمع جرسه، تختزن في نفسها هذه الصور التي ستكون - من بعد - ينبوع حياتها وستعيش بقية أيامها بذكراها. وقد لبثت هذه العجوز في مكانها من المنزل المهجور، بعد أن ودعها ابنها، تبكي وتتقاذفها شتى الأفكار، حتى نالت منها متاعب اليوم وأوقار الشيخوخة، فاستسلمت إلى نوم مزعج متقطع، تضطرب فيه الأحلام المرعبة ... فرأت ابنها بأيدي الجنود الشاميين تنوشه رماحهم وسيوفهم، فوثب قلبها من صدرها وجعلت تصيح وهي نائمة: دعوه، دعوه لي، لا تقتلوه، قد ترك لكم الخلافة فاتركوه لي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015