فلبث عبد الله صامتاً شاخصاً إليه بعينيه، يردد هذه الكلمات التي سمعها ترديد من لا يفقه لها معنى، كأنما هو قد أضل فكره وفقد ذكاءه، أو كأن هذه الكلمات قد خلصت إلى نفسه بعد أن طرحت معانيها، فجاءت خالية لا تدل على شيء. فريع ابن صفوان وأشفق أن يكون قد أصابه سوء، وجعل ينظر إليه بعينين تجلّى فيهما الإخلاص للأمير، والحب للوالد، والوفاء للصديق. ولا عجب في ذلك؛ فلقد كان يرى في عبد الله أميره ووالده وصديقه، ويوليه من نفسه الحب والإكبار. وجعل ابن صفوان يحدق فيه فيراه دائباً على ترديد هذه الكلمات، ولكنه يرى وجهه تنبسط أساريره، ويخطف على جبينه نور الذكاء، وتبرق عيناه ببريق العبقرية، فيطمئن ابن صفوان ويعلم أنه قد عاد إلى نفسه.
نشط عبد الله واستبشر استبشار غريق رأى خشبة النجاة، وعاشت في نفسه آماله، وأورَقَ غصن ماضيه الذاوي فبسط ظلاله الندية على حاضره القاحل المقفر، فأحس كأنه يسمع أبواق النصر التي كان يسمعها في سالفات أيامه، وانتهى إلى أذنيه صدى أناشيد الظفر التي كان يهتف بها جنده تحت راياته المنصورة، وشعر كأنْ قد عاد إلى اسمه عطره وجلاله، فرجع ينبثق من أفواه الكُماة المَسَاعير (?) الذين ذهبوا ينشرون عبقه في بلاد العرب والعجم.