- كرةً أخرى - بيتَه ومدرسته وقريته الصغيرة فأحس كأن قلبه ينازعه إلى أيامه اللاتي سلخهن فيها.
سلاماً أيتها الأرض الضائعة في طريق السماء ... لقد وفيت لك بنذري، فقدت إليك المجد ووهبت لاسمك الظفر، وخرجت منك معلم صبيان ولكني عدت إليك قائد الجيش العرمرم، فثبّتُّ اسمك على صفحات البطولة، فلا يذكر التاريخ عودة الوحدة الإسلامية إلا ذكر معها الطائف!
ثم استغرق في تأمل عميق.
* * *
في تلك الساعة كانت تهدف في طرقات مكة الخالية عجوز طويلة، لا تبالي هذا الظلام الثقيل الذي يحف بها لأن عينيها المنطفئتين قد ألفتا هذا الظلام منذ أمد طويل. وكانت تؤم منزلاً من هذه المنازل المقفرة، فتمضي إليه قُدُماً كأنما هي قد ألفت طريقه وحفظته بذاكرة قدميها لكثرة ما تتردد عليه في الصباح والمساء، فهي تتخطى هذه الأنقاض وتدور حول الجدر، لم تقف حتى غيبتها مداخل المنزل المهجور، فقبعت في زاوية من زواياه جامدة لا تتحرك ولا تهمس، كأنما هي بعض أثاثه القديم الهَرِم، الذي تركه أصحابه زهداً فيه. وجعلت تجيل عينيها الهامدتين في أرجاء عالم مجهول، فيبدو لها مترعاً بالألوان الفتانة زاخراً بالصور البارعة، فلا تملّ التحديق فيه والتجوال في أرجائه، تفتش عن هذه الفتاة التي عرفتها في سالفات أيامها، فلا تلبث أن تجتلي