قصص من التاريخ (صفحة 180)

ويصغي إلى تهامس أوراقها المتلاصقة ونجوى أفنانها المتعانقة، أم يتأمل هذه البنى العظيمة التي أودعها الفنانون أبدع ثمرة من جنى قرائحهم الخصبة، ونزلوا لها عن أجمل نتاج لعبقريتهم ونبوغهم، لتكون عروس البادية، تخطر بعظمتها وجمالها وتتهادى بزخرفها وزينتها على الرمال الخالدة.

وكان الفجر قد امتد إلى نفس المعلم الشاب، فأضاء له عوالمها كما أضاء هذا العالم، وحسر له عن آماله التي كانت مختفية في ظلام الأسفار كما كانت هذه المشاهد غائبة في سواد الليل، فعاد إليها وتمثلها قوية ظاهرة، وأحس كأن فجر حياته الماجدة قد انبثق فختم صفحة هذا الليل الأسود الذي قضاه معلماً في أعالي الجبال، ليفتح صفحة النهار الوضاء الذي يقضيه في المدن الكبيرة أميراً عظيماً. وتلهّى بأحلامه عن هاتين اللوحتين اللتين حار بينهما أولاً: اللوحة التي وشاها الربيع واللوحة التي زينها الفن، وانطلق يفكر في دمشق: ماذا تكون إذا كان هذا كله لقرية من قراها؟

* * *

بقيت القافلة في بصرى ريثما باعت واشترت وقضى تجارها وطراً من الربح والكسب، ثم توجهت تلقاء دمشق. وكان المعلم الشاب يكلف ذهنه ضروباً من الكد ليُمثّل له صورة لدمشق تشبه ما كان يسمع عنها من الأخبار التي كانت تشيع في الأرض، حتى تبلغ تلك الذرى العالية التي تهجع عليها قريته فتُنشَر فيها مكبرة منفوخة مكسوة بأنواع المبالغات: تُصوّر له دمشق جنة كالتي وُعد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015