الأولاد يجلسون على حصير قد مات وفني وتقطعت أوصاله من قبل أن يولدوا، وشاباً على حشية قد طعنها الزمان فنثر أحشاءها. والشاب غض الإهاب حديث السن، ولكن نظرة واحدة إلى عينيه تريك أنه قوي الإرادة ماضي العزيمة، وأن له وقار شيخ في السبعين من عمره.
وبيد الشاب عصا طويلة، يشير بها ويهزها فوق رؤوس الصبية وينال بها من أبشارهم، على حين يجيل فيهم نظرات مشتعلة يتطاير منها الشرر الأحمر تلذع أفئدتهم كلذع العصا أجسامَهم.
تلك هي مدرسة القرية وهؤلاء هم تلاميذها، أما الأساتيذ فعقيل صاحب المدرسة، وزميله الشاب: كُلَيب!
وكانت أمسية طلقة، أراق عليها الربيع بهاءه ورواءه، فصرف كليب التلاميذ ووقف على باب المدرسة - على عادته في كل مساء - ينظر إليهم وهم يقفزون من عتبتها، مفاريح بالنجاة من المعلم وعصاه الطويلة وسحنته المنكفئة المقلوبة أبداً، مماريح يضحكون للحرية والجمال والانطلاق، يعدون إلى القرية عدواً ... حتى إذا غيبتهم هذه الجدران في أطوائها، ولم يبقَ منهم في الرحبة أحد، وسكنت الحركة فيها، وسكتت الضوضاء التي انبعثت من أفواههم الصغيرة وحناجرهم الدقيقة الرنانة ... زفر كليب (المعلم الشاب) زفرة أليمة اقتلعها من أعماق صدره، وألقى عصاه، وولّى ووجه شطر الصحارى البعيدة يفتّش فيها عن الطريق إلى أمنيتّه التي طالما جاشت في نفسه، وعاودته، وكرت عليه، حتى أمست له فكرة لازمة، وبات لا يعرف غيرها ولا يفكر إلا فيها ولا يعيش إلا