في عشية (من عشايا سنة 41 للهجرة) ساكتة لا يُسمع فيها إلا الصمت، في برية هادئة لا يُرى فيها إلا السكون، كان يرى القادم على الحيرة - إذا هو اجتاز بدير هند، عند النخلة المتفردة التي قامت على الطريق - عجوزاً طاعنة، قد انكمشت وانطوت على نفسها وجلست صامتة وحيدة، تجيل عينيها الضعيفتين في هذه الدنيا الصامتة التي دارت من حولها، فتبدل كل شيء وهي ثابتة.
كانت نبتة طرية مزهرة في ذلك الروض، فباد الروض كله وبقيت هي وحدها حطبة يابسة. وكانت كلمة في كتاب الماضي، فمُحيت سطوره كلها وبقيت هي وحدها الكتاب. هذه العجوز التي تراها فتحسبها قد فرغت من الهم واستراحت من الحزن، تطوي أضالعها على ذكريات ضخمة لعالم كامل أخنى عليه الدهر وأضاعه، ولم يدع منه إلا هذه الذكريات تحفظها وتحملها وحدها.
إنها لا تعيش في دنيا الناس، ولا يعيشون في دنياها. إنها لا تعرف شيئاً مما يحيط بها، ولا تنسى شيئاً من عالمها الذي