قال الجامع عفا الله تعالى عنه: المدار على صحّة الرواية، فإن صحّت بالبناء للمفعول، فهي متعيّنة، وإلا فالكلام محتمل للبناء للفاعل أيضًا، وإن كان الوجه الأول أوضح. فتأمّل. والله تعالى أعلم.
(إِذْ) ظرفيّة متعلّقة بـ "نحدّث" (لَمْ يَكُنْ يُكْذَبُ عَلَيْهِ) بالبناء للمفعول: أي وقت عدم الكذب عليه -صلى الله عليه وسلم-. والمعنى على الأول: كان الناس يُحدّثوننا، ونستمع إلى حديثهم، ونأخذ به، في الوقت الذي لا يَكذب فيه أهله على النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وهو عهده -صلى الله عليه وسلم-، وعهد أصحابه. وعلى الثاني: كنا نحدّت الناسَ بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الوقت الذي نثق بأهله أنهم لا يزيدون على ما حدّثناهم به، ولا ينقصون منه، وقد سبق آنفًا أن الأول هو الأظهر؛ لأنه الذي يدلّ عليه السياق، والأثران بعده، والله تعالى أعلم. (فَلَمَّا رَكِبَ) بكسر الكاف، من باب علم (النَّاسُ الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ) قال القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هذا مثلٌ، وأصله في الإبل، ومعناه أن الناس تسامحوا في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واجترؤوا عليه، فتحدّثوا بالمرضيّ عنه الذي مثّله بالذلول من الإبل، وبالمنكر منه الممثّل بالصعب من الإبل. انتهى (?).
وقال النوويّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هو مثالٌ حسنٌ، وأصل الصعب والذلول في الإبل، فالصعب الْعَسِرُ المرغوب عنه، والذَّلُول السَّهْلُ الطيّب المحبوب المرغوب فيه. فالمعنى: سلك الناس كلَّ مَسْلَك مما يُحمد ويُذمّ. انتهى (?). (تَرَكْنَا الْحَدِيثَ عَنْهُ) أي تركنا استماع الحديث الذي يُنقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقبوله، أو تركنا التحديث للناس؛ لعدم ثقتنا بهم، وخوفنا منهم الزيادة والنقص.
وحاصل ما أشار إليه ابن عبّاس رضي الله عنهما في هذا الكلام أنه لَمّا فشا الكذب في الآونة الأخيرة، وكثُر عدم مبالات الناس به أراد أن يتحقّق ويتأكّد من صحّة حديثه، فأمره بإعادة بعض أحاديثه التي لم يستمع إليها حقّ استماع، حتى يوفّيها حقّها من القبول أو الردّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قال المصنف رَحِمَهُ اللهُ تعالى بالسند المتصل إليه:
20 - (وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا كُنَّا نَحْفَظْ الْحدَيثَ، وَالحَدِيثُ يُحْفَظُ عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فَأَمَّا إِذْ رَكِبْتُمْ كُلَّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ فَهَيْهَاتَ).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الإسناد تقدّم قبل حديث، فلا حاجة إلى إعادته. وبالله تعالى التوفيق.