متأخري المعتزلة، فإنهم قاسوا الرواية على الشهادة، واعتبروا في الرواية ما اعتبروا في الشهادة، وما مغزى هؤلاء إلا تعطيل الأحكام كما قال أبو حاتم بن حبّان.
[فإن قيل]: فإن كان الأمر على ما ذكرت، فإن الحديث إذا صحّ سنده، وسَلِم من شوائب الجرح فلا عبرة بالعدد والأفراد، وقد يوجد على ما ذكرت حديث كثير، فينبغي أن يناقش البخاريّ في ترك إخراج أحاديث هي من شرطه، وكذلك مسلم.
[قلت]: الأمر على ما ذكرتُ من أن العبرة بالصحّة، لا بالعدد، وأما البخاريّ فلم يلتزم أن يُخرج كلّ ما صحّ من الحديث حتى يتوجّه عليه الاعتراض، وكما أنه لم يُخرج عن كلّ من صحِّ حديثه، ولم يُنسب إلى شيء من جهات الجرح، وهم خلق كثير، يبلُغ عددهم نيّفًا وثلاثين ألفًا؛ لأن "تاريخه" يشتمل على نحو من أربعين ألفا وزيادة، وكتابه في الضعفاء دون سبعمائة نفس، ومن خرّجهم في "جامعه" دون ألفين، وكذا لم يُخرج كلّ ما صحّ من الحديث، ويشهد لصحّة ذلك ما أخبرنا أبو الفضل عبد الله بن أحمد بن محمد، أنبأنا ابن طلحة في كتابه عن أبي سعيد المالينيّ، أنبأنا عبد الله ابن عديّ، حدّثني محمد بن أحمد، قال: سمعت محمد بن حمدويه يقول: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح.
وأنبأنا أبو مسعود عبد الجليل بن محمد في كتابه، أنبأنا أبو عليّ أحمد بن محمد ابن شهريار، أنبأنا أبو الفرج محمد بن عبد الله بن أحمد، أنبأنا أبو بكر الإسماعيليّ، قال: سمعت من يَحكي عن البخاريّ أنه قال: لم أُخرِج في هذا الكتاب إلا صحيحًا، وما تركت من الصحيح أكثر.
وأنبأنا أبو العلاء الحسن بن أحمد بن الحسن الحافظ قراءةً عليه، أنبأنا المعمر ابن محمد بن الحسين، أنبأنا أحمد بن عليّ الحافظ، أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب، أنبأنا محمد بن عبد الله، سمعت خلف بن محمد يقول: سمعت إبراهيم بن معقِل يقول: سمعت أبا عبد الله البخاريّ يقول: كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال لنا بعض أصحابنا لو جمعتم كتابًا مختصرًا لسنن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فوقع في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب.
فقد ظهر بهذا أن قصد البخاريّ كان وضع مختصر في الحديث، وأنه لم يقصد الاستيعاب لا في الرجال، ولا في الحديث، وأن شرطه أن يُخرج ما صحّ عنده؛ لأنه قال: لم أُخرج في هذا الكتاب إلا صحيحًا، ولم يتعرّض لأمر آخر، وما سَلِم سنده من جهات الانقطاع والتدليس وغير ذلك من أسباب الضعف لا يخلو إما أن يُسمّى