ومنها: أن يكون متيقّظًا سليم الذهن عن شوائب الغفلة.
ومنها: أن يكون قليل الغلط والوهم لأن من كثر غلطه، وكان الوهم عليه غالبًا رُدّ حديثه، وسقط الاحتجاج به.
ومنها: أن يكون حسن السمت موصوفًا بالوقار غير مشهور بالمجون والخلاعة إذ ارتكاب هذا مفضٍ إلى السفه.
ومنها: أن يكون مجانبًا للأهواء تاركًا للبدع، فقد ذهب أكثرهم إلى المنع إذا كان داعية، واحتملوا رواية من لم يكن داعية.
فهذه جوامع الأوصاف، ولها توابع، ولواحق لا يمكن إحاطة العلم بها إلا بعد الممارسة، والمطالعة للكتب المصنّفة في هذا الشأن.
ثم اعلم أن لهؤلاء الأئمة مذهبًا في كيفيّة استنباط مخارج الحديث نشير إليها على سبيل الإيجاز، وذلك أن مذهب من يُخَرّج الصحيح أن يُعتبر حال الراوي العدل في مشايخه، وفيمن روى عنهم، وهم ثقات أيضًا، وحديثه عن بعضهم صحيح ثابت يلزمهم إخراجه، وعن بعضهم مدخول لا يصلح إخراجه إلا في الشواهد والمتابعات.
وهذا باب فيه غموض، وطريقه معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل، ومراتب مداركهم.
ولنوضّح ذلك بمثال، وهو أن نعلم مثلًا أن أصحاب الزهريّ على خمس طبقات، ولكلّ طبقة منها مزيّة على التي تليها، وتفاوت، فمن كان في الطبقة الأولى: فهو الغاية في الصحّة، وهو غاية مقصد البخاريّ. والطبقة الثانية: شاركت الأولى في العدالة غير أن الأولى جمعت بين الحفظ والإتقان، وبين طول الملازمة للزهريّ حتى كان فيهم من يُزامله في السفر، ويُلازمه في الحضر، والطبقة الثانية لم تلازم الزهريّ إلا مدّة يسيرة، فلم تُمارس حديثه، وكانوا في الإتقان دون الطبقة الأولى، وهم شرط مسلم.
والطبقة الثالثة: جماعة لزموا الزهريّ مثل أهل الطبقة الأولى غير أنهم لم يَسْلَمُوا عن غوائل الجرح فهم بين الردّ والقبول، وهم شرط أبي داود والنسويّ.
والطبقة الرابعة: قوم شاركوا أهل الطبقة الثالثة في الجرح والتعديل، وتفرّدوا بقلّة ممارستهم لحديث الزهريّ؛ لأنهم لم يصاحبوا الزهريّ كثيرًا، وهم شرط أبي عيسى، وفي الحقيقة شرط الترمذيّ أبلغ من شرط أبي داود؛ لأن الحديث إذا كان ضعيفًا أو مطلعه من حديث أهل الطبقة الرابعة، فإنه يبين ضعفه، وينبّه عليه، فيصير الحديث عنده من باب الشواهد والمتابعات، ويكون اعتماده على ما صحّ عند الجماعة، وعلى الجملة فكتابه مشتمل على هذا الفنّ، فلهذا جعلنا شرطه دون شرط أبي داود.