مقدّمتان من حيث الإجمال والتفصيل، ذكرتهما مُجمَلًا، ثمّ أذكرهما مفصّلًا، فأقول:

اعلم: -وفّقك الله تعالى- أنه لَمّا كان كلُّ مكلّف من البشر لا يكاد يَسْلَم من أن تشوب طاعته معصيةٌ، لم يكن سبيلٌ إلى أن لا يُقبل إلا طابع محض الطاعة؛ لأن ذلك يوجب أن لا يُقبل أحد، وهكذا لا سبيل إلى قبول كلّ عاصٍ؛ لأنه يوجب أن لا يُردّ أحدٌ، وقد أمر الله تعالى بقبول العدل، وردّ الفاسق في نصّ القرآن، فاحتيج إلى التفصيل.

فكلّ من ثبت كذبه رُدّ خبره وشهادته؛ لأن الخبر ينقسم إلى الصدق والكذب، فالصدق هو الخبر المتعلّق بالمخبِر على ما هو عليه، والكذب عكسه.

وقد اختلف العلماء في حدّ الخبر، فقالت طائفةٌ: الخبر ما دخله الصدق والكذب، وقيل: ما جاز أن يكون صدقًا، وأن يكون كذبًا، وقيل: ما كان صدقًا أو كذبًا. وهذه حدودٌ رسميّة لا تكاد تسلم عن النقوض، والكلام فيها يليق بالأصول.

ثم الخبر منقسم إلى متواتر وآحاد، فالمتواتر ما يُخبر القوم الذين يبلغ عددهم حدّا يُعلم عند مشاهدتهم بمستقرّ العادة أن اتّفاق الكذب منهم محالٌ، والتواطؤ منهم في مقدورات الوقت الذي انتشر الخبر عنهم فيه متعذّرٌ، فمتى تواتر الخبر عن قوم هذه سبيلهم قطع عند ذلك بصدقه، وأوجب حصول العلم ضرورة.

وأما الآحاد فما قصر عن حدّ التواتر، ولم يحصل به العلم، ولكن تداولته الجماعة.

ثم الأخبار كلّها على ثلاثة أضرب:

فضربٌ منها تُعلم صحّته، وضرب منها يُعلم فساده، وضربٌ منها لا سبيل إلى العلم بكونه على واحد من الأمرين دون الآخر.

أما الضرب الأول، فالطريق إلى معرفته إن لم يتواتر أن يكون مما تدلّ العقول على موجبه، كالإخبار عن حدوث العالم، وإثبات الصانع.

وأما الضرب الثاني، وهو ما يُعلم فساده، فهو الذي تدفع العقول صحّته بموضوعها، والأدلّةِ المنصوبة فيها، نحو الإخبار عن اجتماع الضدّين، أو أن الجسم الواحد في الزمن الواحد في مكانين، أو مما يدفعه نصّ القرآن، أو السنّة المتواترة، أو أجمعت الأمة على ردّه تكذيبًا له وغير ذلك.

وأما الضرب الثالث الذي لا يُعلم صحّته من فساده، فإنه يجب الوقف عن القطع بكونه صدقًا أو كذبًا، وهذا الضرب لا يدخل إلا فيما يجوز أن يكون، ويجوز أن لا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015