ما قد صَلَّى مِنْ مَثْنَاه قبلَه، أو مجموع صلاة الليل وِتْرًا إن اعتبرناه على طريقِ صِفَةِ الشيء بحال متعلقة، فبناؤه على أَنَّ الوِتْر ثلاثٌ، أما كونُهَا مفصولةً بسَلام، فهو أَمْرٌ آخَرُ لم يتعرض إليه في هذا الحديث، ولا أُريد تَعْلِيمُهُ منه، وإنما عَلَّمه منه نَضْدَ الوِتْر بصلاةِ الليل، كما مر عن صحيح مسلم - ص 298: إنَّ سائلا سأله: كيف أوتر صلاة الليل؟ وإذا لم يبين له عددًا لأنه في إبان الصبح لا يدرى كم يدرك من الركعات، بدأ من مثنى لأنها أقل، ولعله يكتفي بها فقط. فالتسليم على كلِّ مَثْنى ليس مقصودًا، بل هو لِفَرْض أن صلاتَه هذا القدر فقط إن لم يدرك وقتًا بعدها، أو يزيد عليها مَثْنَى أُخْرَى إن أدرك وقتًا، ثم إذا خَشِي الصبح يُبادر إلى الوِتْر. ولما كان الوِتْر مُركَّبَا من مَثْنَى وركعة، فَصل الراوي مثناها في الذِّكْر فقط، ونَبَّه على أن حقيقة الإتسان قامت بواحدةٍ، فهي في النظر فقط بيانٌ للإيتار لا للفَصْل في العمل أيضًا.
وبالجملة أنَّ المَثْنَويَّة عندنا قامت بالقعدة، وعند الشافعية بالسلام، فلزِمهم أن يقولوا بالتسليم على مَثْنَى الوتر أيضًا. فثبتَ التسليمُ بين الركعتين، والركعة من الوتر بخلافِهَا عندنا، فإنها باعتبار القعدة سواءٌ كان فيها التسليم أو لا، وهذا القَدْر قد بَيَّناه مِنْ قبل.
والآن نريد الخوض في لَفْظ: «تُوْتِرُ له مَا قَدْ صَلَّى» أنه ما يفيد؟ وأنه ما الفَرْقُ بينه وبين قوله: «فاوتر بواحدة». وقد وعدناك بيانَه مرارًا وأَوفيناه أيضًا، ولكنا نفيدك الآن فائدةً لم تكن على خبرةٍ منها بعد.
فاعلم أنا قد مَهدنا مِنْ قبل أن الفِعْل المتعدي إذا اعتبرت فيه المعهودية يصيرُ لازِمَا، وحيئنذٍ يتعدى بحرف الجر، كقوله: قرأ الفاتحة، وقرأ بالفاتحة، ومسح رأسه، ومسح برأسه. ومِنْ هذا الباب أَوْتَره وأوتر به. وحينئذٍ معنى قوله: أَوْتِر به أَن الواحدة هي الوِتْر المعهود عند الشرع. ومعنى الأَيثار بها أن يفعل بها فِعْل الوتر، وحينئذٍ يكون الحديثُ دليلا على أن الوِتْر ركعةً كما ذهب إليه الشافعية رحمهم الله تعالى.
قلتُ: وإن كان حقُّ اللفظ هو هذا، إلا أنَّه لما تبين لنا انتفاءُ كونِ الركعة صلاةً مُعتبرة من جهة صاحب الشرع، وتَرَكْنا تبادُرَه. فإن مِثْل تلك النِّكَات إنما يجري في القرآن للتيقُّنِ بِحِفْظ. أما في الأحاديث فَلِفُشُوِّ الرواية بالمعنى، لا يُؤْمَنُ بِهَا أنه من لَفْظ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أو لا. ولنا أن نعارِض بما في البخاري في عين هذا الحديث: «تُوْتِرُ لَهُ ما قد صَلَّى» مكان «أَوْتِر بواحدةٍ»، وهذا أَقْعَدُ على نَظَرِ الحنفية. فإنَّ الإيتار فيه على صرافة اللغة فلا بد أَنْ يكون هناك مُوْتِرًا - بالفتح - يُؤتَر بتلك الواحدةِ، وهو مَثْنَى بِنَصِّ الحديث، فخرج أَنَّ الوِتْر ثلاثٌ.
فإن قلت: إنَّ قوله: «أَوْتِر بواحدةٍ» كقولهم: أَنتِ واحدةٌ فهي للبينونة. وحينئذٍ تكونُ تلك الواحدةُ منفصلةً من المَثْنَى الأخيرة أيضًا، كانفصالها عن سائر المَثْنَوياتِ وذلك بالتسليم، فيثْبُتُ التَّسْلِيْمُ بين الرَّكْعتين والركعة.
قلتُ: أولا في تفتيش لفظ الواحدِ: إنه يستعملُ بمعنيين: الأول لمفتتح العدد، ويقابله الاثنانِ والثلاثُ، وترجمته «إيك». والثاني بمعنى المنفرد. قال التِّبْرِيزي في شرح قول الحماسي: