والتَّرْجِيْعُ عبارة عن خَفْضِ الشهادتين مرَّةً، ورفعها أخرى. وأمَّا التَّرْجِيْعُ بمعنى تَرْجِيع الصوت كصوت الغناء، فإنه لحنٌ ممنوعٌ، ولا شكَّ أن الأذانَ بمكة كان بالتَّرْجِيع حتى تسلسل إلى زمان الشافعي رحمه الله تعالى، فاختاره لهذا، فلا يمكن إنكاره، ولا يُسْتَحْسَن تأويله، كيف، وقد كان يُنَادَى بهِ على رؤوس المنائر والمنابر، فلا خلاف فيه عند التحقيق إلا في الأفضلية، وإن كان التأويل أيضًا ممكنًا، ذكره الطَّحَاويُّ (?)، وصاحب «الهداية»، وابنُ الجوزي بثلاث عبارات، ومآلها إلى أمرٍ واحدٍ، فإن شِئْتَ، فارْجِع إليه.

قال عامة الحنفية: إن حُجَّتَنا في تَرْك التَّرْجيع: أذان بلال رضي الله عنه، وفي شفع الإِقامة: إقامة أبي مَحْذُورَة. قلت: والأجودُ عندي ما عبَّر به صاحب «الهداية»: أن حُجَّتَنا أذان المَلَك النازل من السماء وإقامته، وما في بعض طُرُقه من الإِيتار يُحْمَلُ على الاختصار ولا بُدَّ، فإنه قد ثَبَتَ عنه الشَّفْعُ، وذلك لأنه الأصلُ في الباب.

نعم، ولنا أذان بلال أيضًا، فإنه أذَّن بمحضر النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في مسجده إلى عشر سنين بلا تَرْجِيع، وذلك هو أذانه بعدما رَجَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم من فتح مكة شرَّفها الله تعالى، وقد كان علَّم هناك أبا مَحْذُوْرَة التَّرْجِيع، فلو كان التَّرْجِيعُ أفضل لعلَّمه بلالا رضي الله عنه أيضًا، ولكنه تَرَكَ الأَمرَ على ما كان، ولم يُحْدِث في أذانه شيئًا جديدًا، فَعَلِمْنا أن السنةَ في الأذان هي التركُ، ولعلَّه كان بمكة لكونه أليق بحالهم، إذ كان المسلمون لا يَقْدِرُون بها أن يؤدُّوا صلواتهم جِهَارًا، فكيف بالنداء؟ فلمَّا فَتَحَ اللَّهُ مكةَ نَاسَبَ أن يُعْلِنَ بالشهادتين جِهَارًا ومِرَارًا ليُعْلَمَ أن الزمانَ قد انْقَلَبَ إلى هيئته بالأمس، فاسْتَحْسَنَ فيها التَّرْجِيعَ لهذا. ولو كان التَّرْجِيعُ من سنَّة نفس الأذان لَمَا تركه في مسجده أبدًا، لا سِيَّمَا بعدما أَلْقَاه على أبي مَحْذُورَة وعلَّمه، ولكنه استمرَّ العملُ في مسجده على الترك.

وخَرَجَ منه أصلٌ مهمٌ، وهو: أن الشيءَ الوجوديَّ قد يكون من جِنْسِ العبادات كالشهادتين، ثم قد يترجَّح تركه على فِعْلِهِ، ولا يتأتَّى فيه أن يُقَال: إن الوجوديَّ عبادةٌ، فَتَرْكُه تَرْكٌ للعبادة، فلا يكون إلا مفضولا كما رأيت في التَّرْجِيع، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم رَجَّحَ التَّرْكَ. ونحوه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015