حجابه الذي هو نورده ورداؤه الكبرياء، والرؤية مع الرِّداء رؤيةٌ للذات عرفًا وشرعًا بلا تأويلٍ وتأمل.
قلتُ: وليس هذا اختلافًا وإنما هو اختلاف الأنظار، ونَظَرُ العلماء أحكم، ونظر أرباب الحقائق أسبق وألطف، فهم يُمَثِّلون على ما يظهر من ظاهر الشريعة، وهؤلاء يراعون ما كَشَفَ الله سبحانه عليهم من حقائق الشريعة وخبيثة أسرارها. وفي الحديث: «لكلِّ آيةٍ ظهر وبطن، ولكلِّ حدَ مطلع». والأمر إلى الله سبحانه. وسيجيء بقية الكلام فيه إن شاء الله تعالى في موضعه في آخر الكتاب.
ولعله صلى الله عليه وسلّم تشرَّف بالإيحاء أولًا، ثم انتهى الأمر إلى الرؤية، وكانت عِيانًا. ولذا انتقل إلى تحقيقه وتثبيته في سورة النجم. ولم يكن في الإيحاء أمر بديع في حقه، فذكره كأنه أمرٌ مفروغٌ عنه. وإذا نزل إلى ذكر الرؤية أكَّده بأنها كانت بالفؤاد والعين معًا. وكانت بدون الطغيان والزيغ. وهذا على نحو ما وقع لموسى عليه الصَّلاة والسَّلام: الكلام أولًا ثم الرؤية ثانيًا. ولكنه رآه تعالى ثم غُشي عليه؟ أو لم يره وغَشِي قبله. فأمرٌ يعلمه الله سبحانه، إلا أن نبينا صلى الله عليه وسلّم رآه قطعًا (?) ولم يُغْشَ عليه، ولكن خَرَّ ساجدًا كما كان يليق بهذا الوقت، وبقي صاحيًا لم يأخذه غَشْيٌ، مؤدِّيًا وظيفة العبودية، مؤدَّبًا في حضرة الربوبية.
فانظر كيف ذَكَرَ رؤيتَه حيث لم يجعلها مقصودة بالذكر؟ فكأنها أمرٌ مما لا يُنكر، إذ كان صلى الله عليه وسلّم دُعِي لذلك، وإنما اهتم برفع ما يمكن أن يقع فيه من اشتباهات، فأزاحها وأكدها بما لا مزيد عليه، فنفى عنه: الضلال، والغِواية، والنُّطق عن الهواء، والزيغ، والطغيان، وذَكَرَ عِلْمَه، وحال معلِّمِهِ، والمباسطة بينهما، وأثبت له الرؤية بالفؤاد، والعين، وأنه قد تصادقا عليه، فما رآه البصر صدَّقه الفؤاد ولم يكذبه، ولا تردد فيه، وما ذاك إلا لأنها كانت رؤيةً بصريةً يَقَظَةً. {فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185] ولكن {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور: 40] والله تعالى أعلم.
ثم لنرجع إلى ما كنا بصدده ونقول: إن قوله: {مِن وَرَآء حِجَابٍ} إشارة إلى النوع الثاني.