يكون له تلك الرائحة (وإنها لتشم من مسافة فرسخ)، وقلت: شمّها أليس لك أنف؟ فشمها بمثل خرطوم فيل. وقال: ما بها شيء! فكدت أنشق من غيظي وقلت لجماعة عنده: شموا بالله عليكم. فمدوا أنوفهم إليها وعيونهم إليه، وقالوا بلسان واحد مثل مقالته؛ فاضطررت إلى أن أخرج فأدفع الثوب إلى فقير وإني لفقير إلى مثله!
واحتجت مرة إلى عامل يصلح لي طائفة من المقاعد، أستقبل عليها ضيفي وأكرم بها زواري، وهي وحدها التي أخشى اللصوص عليها، لأنها خير ما في الدار، حاشا الكتب، فدلوني على رجل له دكان ظاهر في شارع كبير، وفوقه لوحة كتب عليها اسمه وصناعته ووصف براعته وأمانته، فأنست به وكان كهلاً مشقوق اللسان، وأخذته فأريته المقاعد واستأجرته لإصلاحها، ودفعت إليه أكثر الأجرة مقدماً، وتركته ووكلت أخاً لي صغيراً به، وذهبت إلى عملي لم أرجع إلا المساء، فوجدت الرجل قد بعج بطون الكراسي وأخرج أحشاءها وكسر عظامها وأرجلها، ولم يقدر على إعادتها سيرتها الأولى لأنه جاهل بالصناعة، فهرب وذهبت أفتش عنه حتى قبضت عليه، وأعدته إلى الدار، فاجتهد جهده، فكانت غاية ما استطاعه أنه جعل من مقاعدي المريحة آلات للتعذيب، ومقاعد للأذى، إن لم يشق ثوب القاعد عليها مسمار ظاهر منها، ثقبت ظهره خشبة بارزة، أو كان مجلسه على أحدّ من شوك القتاد، وقبض الأجرة كاملة غير منقوصة.
ولو شئت أو لو شاء القراء لسردت ثلاثين واقعة، ما هذا الذي ذكرت بأشدَّ منها ولا أعجب، فأين تقع الأمانة من نفوس هؤلاء الذين يدعون أنهم من المسلمين.
...
وكيف أصنع إذا كان هؤلاء (المسلمون) لا يوثق بهم، ولا يطمأن إليهم أأعامل الفرنسي والرومي والصهيوني وأقاطع بني ديني ووطني؟
أما إنه لخطب جسيم؛ فماذا تصنع المدارس ومعلموها والمساجد وواعظوها والصحف وكاتبوها، إذا لم يعلنوا على الخيانة حرباً لا هوادة فيها