قلت: كما وقع الفلكي الذي كان ينظر في النجوم ومسالكها، ويدقّق في حركاتها وسكناتها، ويعمى عما تحت قدميه، وكما (يسقط) الكاتب الذي يتكلم في الفلسفات العليا، ويغفل عن أدواء أمته وأمراضها، والشاعر الذي يحلّق في سماوات الخيال، ويدع أمته تتمرغ في حضيض الشقاء.
وتركتهم يعجبون من هذا الكلام الذي حسبوه كلام مجنون؛ وسرت حذراً؛ أنظر حولي كيلا ألدغ مرتين من جحر واحد، فأكون شرّاً من الحمار، لأن الحمار إن سقط في حفرة مرة، يجتنبها فلا يسقط فيها أخرى، والإنسان (الذي يؤمن به أخونا الأستاذ خلاف (?)) يسقط في الحفرة الواحدة خمسين مرة، ثم لا يجتنبها ولا يبتعد عنها.
ونظرت في «المنظار» فلم أرَ؛ إلا سوءات مكشوفة و «أوساخاً» ظاهرة، وبلايا من هذه البلايا؛ فكدت من غضبي أكسر هذا «المنظار» المسحور الذي ينظر فيه الأستاذ محمود فيرى كل جميل وعظيم؛ وأنظر أنا فلا أرى إلا الأوساخ والسوءات، ورفعته عن عيني، وأنعمت النظر؛ فإذا الذي أراه حقيقةٌ كنت أمر بها فلا أتنبه إليها، لتعودي عليها، وتنبهت الآن لما ركبت على عيني «المنظار»، وهي أن الطريق الذي أسلكه كل يوم من داري في آخر الروضة إلى جسر الملك الصالح وأحسبه نزهة جميلة، قد فاض بالأقذار من الجانبين، فمن هنا هؤلاء الناس من الرجال: الشيب والشبان، والأولاد: البنات والصبيان، والنساء أحياناً؛ (حتى النساء!) يدعون جميعاً بيوت الطهارة وهي أمامهم: فيها الماء، وعليها الحارس، وفيها الستر والنظافة، و «يقضون حاجاتهم» على طول «الشطّ» أمام الناس، ومن هناك البنات المصريات في آخر الشارع، والأولاد المصريون في أوله، يدعون جميعاً المدارس المصرية الطاهرة النظيفة، ويقصدون هاتين المدرستين الإنكليزيتين، يفتحون أدمغتهم للإنكليز وصنائعهم من أصحاب الأغراض والحاجات، ليحققوا فيها أغراضهم، و «يقضوا حاجاتهم» ويجعلوها عشّاً لكل وباء وكل مرض، يضعف الوطنية، ويؤذي الدين. وإذا طهر الشطَّ