حتى تصدّع على هؤلاء الأغنياء حجارة القصر الذي اعتصموا فيه، ليروا ما بالناس ويسمعوا ما خَطْب المساكين، من إخوانهم في الوطن واللغة والدين. إنهم في سكرة الذهب، فاصرخوا فيهم حتى يصحوا منها، قبل أن يذهب السكر ويأتي «الأمر»، فيروا أن أمر الله إذا جاء لا يرد. أفهموهم -وكيف السبيل إلى إفهامهم- إننا رأينا رأي العين، ما قرأنا في الكتب، ولا سمعنا من الناس، من غني في الحرب الماضية أكثر مما غنوا، وبذر أضعاف ما بذروا، ثم ذهب المال والأهل، وغدا يسأل الناس على أبواب المساجد ولولا أنه يحرم التصريح بعد التلميح، لصرحت بأسماء أقوام عرفناهم، وإن جهلهم من قصرت سنه عن أسناننا.

...

على أنني ما أعمم القول، ولا أطلقه إطلاقاً، وإن في الموسرين لمحسنين، وفي التجار لمنصفين، وما تخلو طبقة من خير ولا من شر، ولكن في الموسرين من يريد الإحسان ولا يعرف المستحق له، ومن المستحقين من لا يعرف المحسنين، ومنهم من يعرف ولا يسأل، أولئك الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. وإن من أوجب ما يجب علينا في هذه الحرب أن ننشئ جمعيات موثوقاً برجالها، بأمانتهم ودينهم، تكون في كل حي كالوسيط بين الغني المحسن والفقير المحتاج، تتخذ من الأول وتعطي «بعد التحقّيق من حاجته» الثاني، ومن عرفت أنه اتخذ السؤال حرفة -على مقدرة منه على العمل، أو على مال له قد خبأه، فعلَ أكثر هؤلاء المكدين -رفعت أمره إلى الحكومة لتعاقبه عقاب المتشردين، ويا ليت هذه الجمعيات الإسلامية الكثيرة في مصر والشام والعراق: الإخوان والشبان والهداية والتمدن وأمثالها، تجعل ذلك المطلب من بعض مطالبها.

ثم إن من أهم ما ينبغي لهذه الجمعيات أن تصنعه هو أن تختار للإحسان أسلوباً يهون به العطاء على المعطي، وتجزل به المنفعة للآخذ. ولقد وجدت أنا واحداً من مائة أسلوب تخطر على البال، حين كنت «من نحو ثلاث سنوات» قاضياً في القلمون، وضاقت الأقوات وقلَّ الخبز، فدعوت إلى ما سميته «مشروع الرغيف»، وأعانني عليه القائم بأمر المنطقة يومئذ ففرضنا على أهل كل بيت من

طور بواسطة نورين ميديا © 2015