الحاجة إلى (الوظيفة) وأجبره الكدح للعيش على أن يفكر برؤوس رؤسائه الفارغة لا برأسه هو، فلا يكتب إلا ما يشتهون، ولا يقول إلا ما يريدون وعلى أن يضع أدبه وذكاءه ومواهبة بين يدي مفتش قد يكون جاهلاً أو يكون مخطئاً أو يكون لئيماً ينتقم لغباوته وجهله من الأذكياء العلماء. والمدرس على ذلك كله ملزم باتباع رأيه والصدور عن مشورته .. وإذا كتب ينقده في صحيفة أو يسمّع به في مجلس، قامت عليه القيامة ونفي إلى أقصى الأرض، أو أخرج من الوظيفة إخراجاً، ثم لا ينصره عليه أحد لأن الناس قد استقر في أفهامهم أن المفتش أعلم وأبرع من المدرس، ولا سيما إن كان دكتوراً أو كان أستاذاً في جامعة، فإن مثله لا يأتيه الخطأ من بين يديه الامن خلفه، ولا عن يمينه ولا عن شماله، ولا من فوقه ولا من تحته ... والمدرس يركبه الخطأ من جهاته الست لا لشيء إلا لأن مرتبه أقل، ووظيفته أصغر ... ثم إن عندك الموظفين الجاهلين المتزلفين الذين يتقربون إلى المفتش الشاعر أو الرئيس الأديب بإذاعة فضله، والثناء عليه، ومنحه الألقاب جزافاً، ويستمرون على ذلك ما استمر قاعداً على كرسيه لأنهم عباد صاحب الكرسي ... فتؤثر هذه (الدعاية) -على بطلانها- في نفوس الأخلياء، وينال هذا المفتش الشاعر شهرة ومنزلة لم تقم على أدبه وإنتاجه، وإنما قامت على أرجل كرسيه الأربع وألسنة أتباعه التي تشبه أرجل الكرسي ... وربما خدع التاريخ بهذه الشهرة -والتاريخ يخدع أحياناً- فانطمس الحق وعمت البلية ...
فما هو سبيل الخلاص من هؤلاء (الأدباء الرسميين) الذين يستغلّون هذه الشهرة الزائفة وهذه المنزلة الكاذبة فيقيمون أنفسهم أو تقيمهم الحكومة مقام الأئمة من أهل الأدب، فيرسمون للناشئين خططه ويضعون مناهجه ويملكون تحويله من وجهة إلى وجهة، ويستطيعون أن يؤثروا في مستقبل الأدب بما أوتوا من السلطان، وأن المدارس في أيديهم، وأموال الدولة تحت إمرتهم، تأثيراً لا يقدر على بعضه الأدباء غير الرسميين الذين لا يملكون إلا أقلامهم وعقولهم، بل إن الأدباء الرسميين قد يستطيعون والحكومة من ورائهم أن يسخروا بعض الصحف لغاياتهم ومقاصدهم. ولو كان هؤلاء (الأدباء الرسميون) الذين