تحت القصر كنزًا، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار، فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة11.
وبعض الباحثين يشك في هذه الدعوى، بسبب أن راويها حماد، وأنه ربما افتعلها ليفضل أهل الكوفة على أهل البصرة في الخلافات التي نشبت بين البلدين12. ولكني أعتقد أن مضمون هذه القصة يغلب عليه أن يكون صحيحًا، فمن الطبيعي أن يعتز الملوك والسادة الكبار بما قيل فيهم من مدائح، وما لهم من آثار، فيعملوا على تسجيلها وتدوينها لتظل خالدة. وفي ذلك يقول ابن سلام في كلامه عن الشعر العربي القديم: "وقد كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول، وما مدح به هو وأهل بيته فصار ذلك إلى بني مروان"13 وقد ورد أنه في زمن الوليد بن عبد الملك تولى الخطاط خالد بن أبي الهياج كتابة المصاحف والشعر والأخبار للخليفة المذكور، كما أن الخليفة الوليد بن يزيد المولود سنة 90-708 والمتوفى سنة 127-744 أمر بجمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها، وأنسابها ولغاتها14.
وكما كان في الأدباء من يقرأ ويكتب، كان من الرواة من يعرفون القراءة والكتابة: فيروى عن أبي عمرو بن العلاء أن كتبه ملأت بيتًا له إلى قريب من السقف، ثم إنه تقرأ فأحرقها كلها، فلما رجع بعد إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه15.
وجاء في الأغاني16 أن حمادًا الراوية قال: "أرسل الوليد بن يزيد إليَّ بمائتي دينار، وأمر يوسف بن عمر بحملي إليه على البريد. قال: فقلت: لا يسألنى إلا عن طرفيه: قريش وثقيف، فنظرت في كتابي قريش وثقيف". ويقول صاحب الأغاني في موضع آخر. كان حماد الراوية في أول الأمر يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص فنقب ليلة على رجل فأخذ ماله، وكان فيه جزء من شعر الأنصار، فقرأه حماد فاستحلاه وتحفظه17.