الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: إخوتي الكرام الأعزاء! في العام التاسع الهجري أرسى النبي صلى الله عليه وسلم قواعد هذه الأمة المباركة في حجته المشهورة حجة الوداع، هذه الحجة التي لم يحج غيرها عليه الصلاة والسلام، كما أخبر جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فيما رواه مسلم في صحيحه في كتاب الحج: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بهم من المدينة للحج، فأخبرهم وأعلمهم، بل رأوه عياناً في مناسك الحج، ومن بين هذه المناسك: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أتى بطن وادي عرنة -وهو ليس من عرفة على الراجح- صعد فخطب خطبة عصماء بين فيها هوية هذه الأمة، وأنها تختلف عن بقية الأمم، فقد أخرج أبو داود في سننه بسند صحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كونوا كأنكم شامة بين الناس)، أي: علامة ظاهرة، هذه الأمة لها شخصيتها التي تختلف عن بقية الشخصيات، ولها هويتها التي تختلف عن بقية الهويات، ولها سمتها التي تختلف عن بقية السمات، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب -عم النبي صلى الله عليه وسلم- فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد)، أي: أنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وهذه من آخر وصايا النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الحديث فيه من الفوائد والشواهد والفرائد الشيء الكثير، ويكفي أنه كان نصيحة عامة حضرها الألوف المؤلفة ممن حج مع النبي عليه الصلاة والسلام، وسمعت بها الأمة بأسرها، أقصاها وأدناها، قريبها وبعيدها، لكن من عمل بها؟