وتأسيسًا على هذا الفهم، نجد المقال الصحفيِّ في بيئة التكوين لجيل طه حسين مرتبطًا بالبيئة المصرية وما يضطرب فيها من حيوات، بحيث بدت القاهرة حينئذ أشبه ما تكون ببرج بابل، كما يقول العقاد1، تعج بدعواتٍ من كلِّ لونٍ، ولكنَّ هذه الصورة ترتبط من الوجهة المصرية بالأستاذ الإمام محمد عبده، الذي ذهب في توجيه النهضة القومية بعد عودته من المنفى إلى وجهةٍ تتفق مع مذهبه في الحياة، وهي وجهة "لا يشغلها الغرض القريب عن الغرض البعيد، ولا ييئسها الأمل الضائع أن تصمد للأمل الذي لا يضيع"2 فلا معول للأمم في جهادها –لديه- أنفع وأصدق في المضي بها إلى غايتها من العلم الحي والتربية القومية, وكان يقول للمقرَّبين لديه من مريديه: لو كان في هذه الأمة مائة رجل لما استطاع الإنجليز أن يحكموها، ولما أدركوا منها أربًا في حكمهم إياها، وإنما الرجل عنده صاحب الفكر البصير والخلق المكين: صاحب الكفاءة الذي إن وُجِدَ في الأمة قادها لا محالة، ولم يتمكَّن أجنبي ذو سطوة أو ثروة أن ينازعه على قيادها3.
ويلخص لنا هذا القول اتجاه الإمام وأثره في التربية الوطنية، وسبب انصرافه إلى حصر نشاطه في تلك الدائرة التي ارتضاها لنفسه وهي تزعم حركة الإصلاح الديني والاجتماعي, ولم يتعداها إلى خارجها, ولم يُرِدْ أن يكون صاحب رأي مباشر في الحياة السياسية إلّا من خلال مذهبه الاجتماعي والصحافة النزيهة وتربية القادة4. ويتبين هذا الأثر الفكريّ من تمثل كُتَّاب الجريدة لأفكار الإمام واتجاهاته، فقال عنهم كرومر في تقرير 1906 "إنهم من أتباع الشيخ محمد عبده", وقال عنهم غيره: إنهم من تلامذته وروَّاده, ومهما يكن من شيء فقد اتجه كُتَّاب "الجريدة" إلى تعقيل الحياة وتخليصها من عناصر الخرافة وما إليها5، واستمت هذه الدعوة بالنظر في الإصلاح المصري على أساسٍ جديد، هو العقل من ناحية، والمنفعة الذاتية لمصر وحدها من جهة ثانية6.
على أن هذه الدعوة لا يمكن أن تنفصل عن الفكرتين اللتين سادتا البيئة