نستطيع أن نقسم مراحل المقاومة الفلسطينية إلى مرحلتين رئيسيتين: المرحلة الأولى: وهي مرحلة المظاهرات والمسيرات والمؤتمرات.
واستمرت من سنة 1919م وإلى سنة 1935م أي: حوالي 16 سنة، قاد المقاومة في هذه الفترة المفتي الشيخ أمين الحسيني رحمه الله، وتلاه آخرون حتى سنة 1935م كانت هذه المرحلة الأولى.
وفي سنة 1935م انتقلت المقاومة الفلسطينية من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية، من مرحلة المظاهرات والخطابة إلى مرحلة الجهاد والشهادة.
المرحلة الثانية: مرحلة الجهاد والشهادة، وذلك تحت قيادة البطل الفذ الشيخ عز الدين القسام رحمه الله الذي كان فعلاً عزّاً للدين ونصراً له، والذي ربى جيلاً عظيماً من المجاهدين الواعين الفاهمين لقضيتهم والمتحركين لها، والمضحين في سبيلها بالغالي والثمين.
استشهد رحمه الله بعد قيامه بأيام، لكن أبداً ما ماتت الثورة بل زادت وتوهجت، وحمل الراية من بعده شيخ كبير طاعن في السن، لكنه يتحرك بعزيمة الشباب، الشيخ المجاهد فرحان السعدي والذي ما لبث أن أُعدم وهو في الثمانين من عمره، ثم تسلم الراية من بعدهم بطل جليل من أبطال فلسطين -وما أكثرهم- ذلك هو البطل عبد القادر الحسيني رحمه الله، والذي قاد حركة الجهاد المسلح في فلسطين ضد احتلال الإنجليز واليهود، وذلك بدءاً من سنة 1936م إلى سنة 1948م، أي: أنه ظل 12 عاماً رافعاً سلاحه معتزاً بجهاده، مضحياً بنفسه وماله وجهده ووقته، ما لانت له قناة، وما فترت له عزيمة، وما انحنى له رأس، وما انكسرت له شوكة، حتى لقي شهادة كريمة عظيمة في عام 1948م.
صدق فيه وفيمن سبقه من رواد وفيمن تبعه من مجاهدين قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، على من يغزوهم قاهرين، لا يضرهم من ناوأهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك.
قيل: يا رسول الله! وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس).
وأعطيكم في هذه المحاضرة مثالاً واحداً لجهاد عبد القادر الحسيني رحمه الله ومن معه من أبطال فلسطين: ثورة عام 1937م و1938م و1939م ثلاث سنوات متصلة لم تنقطع فيها الثورة، واسمعوا معي هذه الأرقام: في سنة 1937م قام المجاهدون من أهل فلسطين بـ (506) عملية فدائية، وفي سنة 1938م قام المجاهدون من أهل فلسطين بـ (5708) عملية فدائية، وفي سنة 1939م قام المجاهدون من أهل فلسطين بـ (3315) عملية فدائية.
سبحان الله! أرقام ضخمة جداً، فالعمليات الفدائية التي تمت في الانتفاضة الأخيرة في سنة 2000م على عظمها لم تبلغ بعد معشار ذلك، ما زال أمامنا الكثير، تاريخ طويل وجهاد عظيم، وكفاح مرير، وعيون ساهرة، وشعوب صابرة، ودماء طاهرة.
بلغت خسائر بريطانيا في هذه العمليات عشرة آلاف قتيل، ومن اليهود مثلهم، فبلغ عدد الشهداء اثنا عشر ألف شهيد، واعتقل خمسون ألف معتقل، وحكم بالإعدام على 146 رجلاً، ودمر 5000 منزل.
ومع ذلك يا إخوة! ما زلنا في بداية الطريق، لا علم بغير عمل، ولا جهاد بغير تضحية، ولا نصر بغير صبر، ولا ليل بغير نهار.
هل سكتت إنجلترا عن هذه الصولات والجولات؟ ماذا تفعل إنجلترا أمام الصدور المفتوحة للرصاص المتمنية للموت المشتاقة إلى الجنة.
ماذا تفعل؟ سبحان الله!! ما زال في جعبتها أسلحة.
تلك الماكرة: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46] استخدمت إنجلترا أسلوباً تقليدياً، لكنه فعّال، أسلوباً قديماً حديثاً، أسلوباً بسيطاً معقّداً، ما أسهل استخدامه وما أصعب مقاومته، أسلوب فرّق تسد، ماذا فعلت؟ انتبه واسمع واعتبر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:3]، شجّعت بريطانيا بعض الفصائل الفلسطينية الموالية لها على تكوين ما يُعرف بفصائل السلام، بزعامة رجل اسمه فخري النشاشيبي.
نتيجة الانتفاضة الكبيرة ونتيجة فشل الإنجليز واليهود في قمعها، فكّروا في إنشاء فصائل السلام، مهمتها تسكين الشعب بوعده بالسلام مع بريطانيا واليهود، مهمتها وقف نزيف الدماء اليهودية والإنجليزية قبل الفلسطينية، مهمتها تمثيل الشعب في المحافل والمؤتمرات، مهمتها تعقب المجاهدين ودل البريطانيين عليهم، مهمتها جر المجاهدين إلى معارك جانبية، مهمتها وقف الانتفاضة والوعد بحكم تحت رعاية إنجليزية.
هكذا قامت فصائل السلام تدعو للسلام، وسبحان الله! نتحدث عن التاريخ وكأنا نراه رأي العين، ترى ماذا كانت حجتهم أولئك الذين حملوا السلاح باسم السلام، وضربوه في صدور إخوانهم، أو وضعوا أيديهم في يد عدوهم يدلونهم على المجاهدين؟ أتراهم يعتقدون أن خير فلسطين في موالاة عدوها؟ أم تراهم يعلمون الحق ويتبعون غيره؟ إن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم تسارعوا إلى نصرة أعدائهم ظناً