التعليق الثاني على قضية الدماء في فلسطين: نقول: هل ضاعت الدماء التي بذلت في انتفاضة تهدف إلى تحرير فلسطين؟ أبداً والله، نحن لا نقول: ضاعت بل نقول: فازت، يا إخوة! إنها الشهادة، فلا تعتقد أبداً أن هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله قد خسروا أرواحهم، وماتوا في عز شبابهم، وضاعت أحلامهم وآمالهم لا، إن هؤلاء بدءوا حياتهم بموتهم، وعجل لهم من الكرامة والفضل بمجرد موتهم ما يعجز عنه البيان، والحسابات عند الله يا إخوة! مختلفة تماماً عن حسابات البشر، لكن كثيراً من البشر ينظر إلى النتائج، والله سبحانه وتعالى ينظر إلى الأعمال والنيات ولا ينظر إلى النتائج، فكثير من الصحابة الصادقين ماتوا قبل أن يروا نصراً أو تمكيناً، ومع ذلك هم في أعلى عليين، فلم يحرم من الأجر ياسر وسمية رضي الله عنهما والدا عمار بن ياسر، وقد قتلا في فترة مكة دون نصر ولا تمكين، ومع ذلك يمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: (صبراً آل ياسر! فإن موعدكم الجنة)، كذلك خبيب بن عدي ومصعب بن عمير وحمزة بن عبد المطلب وسعد بن الربيع وغيرهم، هؤلاء استشهدوا في أحد دون أن يشاهدوا دولة الإسلام قائمة، لكن ما ضاع أجرهم، فحسابات الله سبحانه وتعالى مختلفة تماماً عن حسابات البشر.
رجل أنفق عاماً كاملاً لدعوة زميله إلى الصلاة وفعل الخيرات وترك المنكرات، ثم أبى ذلك الزميل إلا أن يستمر في شهواته -هل ضاع على الداعي هذا المجهود؟ أبداً والله ما ضاع؛ ذلك لأن الله يحاسب على العمل والنية، ولا يحاسب على النتيجة، فشهداء أحد يشبههم شهداء فلسطين الآن، فقد بذلوا أرواحهم دون نصر مادي ملحوظ، ومع ذلك اسمع إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى مسلم في صحيحه عن مسروق رحمه الله قال: (سألنا عبد الله عن هذه الآية: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربهم إطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئاً؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا)، فهل تريد أن تحرم شباب فلسطين من هذا الأجر والنعيم؟ يؤكد المعنى السابق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا، إلا الشهيد فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى مما يرى من فضل الشهادة).
روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعلمت أن الله أحيا أباك فقال له: تمن؟ فقال له: أرد إلى الدنيا فأقتل فيك مرة أخرى، قال: إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون).
روى البخاري عن جابر قال: (لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهوني والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تبكه.
ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعت).
إذاً: ملخص التعليقات التي ذكرناها على قضية وقف نزيف الدماء: أن هذه الدماء غالية جداً ولكن أولاً: الشعوب لا تحرر إلا ببذل الدماء، ثانياً: الدماء التي بذلت دماء طاهرة بذلت في سبيل الله ففازت بالنعيم، والله يحاسب على الأعمال والنيات، ولا يحاسب على النتائج.