مصيبة الأمة الآن هي تعاظم حب الدنيا في قلوب المسلمين، ومن أجل الدنيا يرضى المسلمون بالدنية في دينهم، ولو هانت عليهم الدنيا لقويت شوكتهم وعز سلطانهم، ولأُلقيت المهابة للمسلمين في قلوب الأعداء بدلاً من أن تنزع من صدورهم، فالدنيا كلما تعاظمت في النفوس قلّت قيمة الآخرة عند الإنسان، فالدنيا وتعاظمها في النفوس كانت سبباً مباشراً لاحتلال فلسطين، ولاحتلال غيرها من بلاد المسلمين؛ ولهذا فإن الله عز وجل كثيراً ما حقّر من شأن الدنيا في كتابه سبحانه وتعالى؛ ولهذا السبب أيضاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم التقليل من قدر الدنيا، يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77]، ويقول: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]، ويضرب للدنيا مثلاً عجيباً، وهو ما جاء في قوله سبحانه: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24].
إخوتي في الله! مهما عملتم في حياتكم ومهما اكتسبتم في معاشكم، ومهما تمتعتم في دنياكم فالحياة في النهاية قصيرة وعابرة، يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:112 - 114].
روى الإمام مسلم رحمه الله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلاً من بعض العالية -والعالية أرض في أعالي المدينة- والناس كنفيه، وفي رواية: كنفتيه -أي على جانبيه - فمر صلى الله عليه وسلم بجدي أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال) والأسك: هو قصير الأذن، وهو عيب في الجدي يقلل من قيمته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمسك بأذنه ليلفت الأنظار إلى عيبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟) من يشتري هذا الجدي الميت الأسك بدرهم، فقالوا: (ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟).
فالجدي ميت، ومن طبيعة الناس أن ينفروا من الحيوان الميت لرائحته ومنظره، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عليهم شراءه، رد الصحابة الرد المنطقي وقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتركهم، بل قال: (أتحبون أنه لكم؟) هنا ظن الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرى عيوبه، فقالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه أنه أسك فكيف وهو ميت؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرى عيوبه بوضوح، لكنه يريد أن يرسّخ معنى مهماً في عقول الصحابة وفي عقول أمته من بعدهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم) كل الدنيا أهون على الله من الجدي الأسك المعيوب الميت.
فوالله يا إخوة! من أجل ما هو أقل وأهون من الجدي المعيوب الميت يتصارع الناس ويتقاتلون، ومن أجل ما هو أقل وأهون من الجدي المعيوب الميت يرتكب الناس الذنوب ويخالفون المنهج، ومن أجل ما هو أقل وأهون من الجدي المعيوب الميت يزهد الناس في جنة عرضها السماوات والأرض سبحان لله!! أمر عجيب، وفهم قاصر، وحقائق مغيبة، إن وجدت صراعاً بين الإخوة وتنافساً على أشياء كان من الواجب أن يتعاونوا عليها، إن وجدت موالاة لكافر على حساب مؤمن، إن وجدت خيانة لأمانة ونقضاً لعهد وحرباً لفضيلة، وإنكاراً لمعروف، إن وجدت الحبيب يترك حبيبه، والولد يهمل والديه، والحاكم يظلم شعبه، والرجل يكره وطنه، إن وجدت الأجساد هامدة والعقول خاملة والعزائم فاترة، والغايات تافهة منحطة منحدرة إن وجدت كل هذا فاعلم أنها الدنيا، واعلم أن ذلك متبوع بهلكة، والهلكة متبوعة باستبدال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
روى البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهذا جزء من حديث-: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم ك