على نفس الدرب سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان من التابعين والصالحين والمجاهدين، دعاء طويل، وابتهال عميق، وتضرع في خشوع، ونداء في خضوع.
هذا سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه يوم الأحزاب يناجي ربه، وكان سعد رضي الله عنه قد أصيب إصابة كبيرة يقول: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم.
كان سعد بن معاذ رضي الله عنه يظن أن الحرب قد انتهت، وأن المسلمين قد انتصروا وكفى، فيقول رضي الله عنه: اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، أي: أنه لا يريد أن يموت في هذا الوقت، ولكنه يريد أن يستمر في الجهاد في سبيل الله إن كان للحرب بقية، ثم يُكمل فيقول: وإن كنت وضعت الحرب فافجرها -أي: افجر الإصابة حتى أموت- واجعل موتتي فيها، وذلك حتى يموت شهيداً رضي الله عنه وأرضاه، ثم يُكمل: ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
وانظر كيف فعل الله سبحانه وتعالى بدعائه وكيف استجاب له؟ كانت الإصابة سبباً لشهادته في سبيل الله؛ لأن الحرب كانت قد وضعت فعلاً في الأحزاب، وأقر الله عينه من بني قريظة قبل أن يموت سبحان الله! اتصال مباشر مع رب العالمين، واستجابة كاملة منه سبحانه وتعالى لدعاء العبد الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه.
دعاء البراء بن مالك يوم تُستر، تذكرون عندما تحدثنا عن موقعة تستر في فتوح فارس، تلك الموقعة العجيبة التي استمر حصار المسلمين فيها للفرس مدة سنة كاملة ونصف، وفي آخر هذه المدة الطويلة جداً يدعو البراء بن مالك رضي الله عنه دعاء قصيراً لكنه عجيب، يقول: اللهم امنحنا أكتافهم وألحقني بنبيك، يطلب النصر ويطلب الشهادة، فإذا بالجيش ينتصر، وإذا بحصن تُستر يُفتح، وإذا بـ البراء يفوز بالشهادة ويلحق بنبي الله صلى الله عليه وسلم كما أراد، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حسن رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (رُب أشعث أغبر ذي طمرين) والطمر: هو الثوب البالي الرث، يعني: رجل بسيط الهيئة (رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك).
ويروي الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (رُب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره).
فالاستجابة ليست بعظم المركز أو بقوة السلطان، ولكن الاستجابة تكون بطهارة القلب، ونقاء القصد، وجمال الطلب، وإلحاح الطالب.
وهذا النعمان بن مقرن رضي الله عنه وأرضاه، يدعو في نهاوند فيقول: اللهم إني أسألك أن تُقر عيني بفتح يكون فيه عز للإسلام وذُل يُذل به الكفار، ثم اقبضني بعد ذلك على الشهادة، واجعل النعمان أول شهيد.
الموت عندهم كان غاية وهدفاً ومطمحاً، فهذا النعمان بن مقرن يدعو أن يكون أول شهداء المسلمين، وانتهى من دعائه رضي الله عنه فكان النصر للمسلمين، وكان النعمان أول مُصاب، ثم لا يستشهد إلا بعد أن يقر الله عينه بالنصر، وذلك كما فصّلنا لكم من قبل في فتح نهاوند.
استجابات عجيبة، وكرامات من الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين.
وهذا موقف عجيب من حروب الردة، إذ نزل العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه قائد الجيش السابع من جيوش حروب الردة منزلاً ليلاً، وكانوا في صحراء قاحلة، وما إن استقر الناس على الأرض حتى نفرت الإبل بما عليها من زاد الجيش والخيام والشراب، ولم يقدروا منها على بعير واحد، فكانت كارثة وقعت في صحراء قاحلة ويفقدون الزاد والماء!! وركب الناس من الهم والغم ما لا يوصف، فنادى العلاء عليهم، ثم قال في ثبات عجيب: أيها الناس! ألستم المسلمين؟ ألستم في سبيل الله؟ ألستم أنصار الله؟ قالوا: بلى، قال: فأبشروا، فوالله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم.
انظروا إلى اليقين وإلى أسباب عدم الخذلان في سبيل الله، فهم أنصار الله فكيف يخذلهم الله؟ وبعد صلاة الفجر جثا العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه وأرضاه على ركبتيه وجثا الناس، ونصب في الدعاء ورفع يديه، وفعل الناس مثله حتى طلعت الشمس وهم مجتهدون في الدعاء، حتى إذا فرغوا من دعائهم وجدوا بجوارهم شيئاً عجباً، وجدوا في عمق الصحراء غديراً عظيماً -جدول مياه- جعل الله فيه ماء عذباً فراتاً، فمشى الناس إليه وشربوا واغتسلوا، ثم ما هي إلا لحظات، حتى أقبلت الإبل من كل فج بما عليها لم يفقد الناس من أمتعتهم شيئاً، آية من آيات الله، وما هي من المؤمنين ببعيد.
وليس هذا والله يا إخوة! في زمان الصحابة فقط، بل تعال وتدبر في دعاء يوسف بن تاشفين