في صمت وإعراض، لا يهتمُّون بهم، ولا يظنون أن عليهم واجباً تلقاءهم، حتى إذا قضوا قاموا يطنطنون بذكرهم ويشيدون بمواهبهم، ويركبون على قبورهم ليقولوا للناس: انظروا إلينا ...
هذه هي علَّة الشرق:
لا ألفينَّك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي
ورحم الله القاضي عبد الوهاب المالكي، خرج من بغداد فخرج لوداعه عشرون ألفاً، يبكون وينتحبون، فقال لهم: يا أهل بغداد، والله ما فارقتكم عن قِلَى، ووالله لو وجدت عندكم عشاء ليلة ما فارقتكم، وهم يبكون وينتحبون ويصرخون: إنه يعزُّ علينا فراقك، إننا نفديك بأرواحنا، يا شوقنا إليك، يا مصيبتنا بفقدك! ...
...
هذه هي المسألة ... أفليس هناك طريقة لإنقاذ الدماغ من المعدة؟ لإنصاف العلم من المال، لحماية النبوغ من الضياع؟.
من يشتغل بالعلم والدرس والكتابة والتأليف إذا كان الفقراء لا يطيقونه، والأغنياء لايحسُّونه؟ أكان لزاماً على من يشتغل بذلك أن يموت من الجوع؟ ألا يستحق هذا المسكين بطريقة من الطرق، بقانون من القوانين، عشرين ديناراً، يأخذها موظف جاهل خامل بليد، لا يحسن شيئاً إلا النفاق والالتماسات والوساطات، ولا ينفع الأمة معشار ما ينفعها هذا الذي يذيب دماغه، ويحرق نفسه، ويعمي بصره، وينفق حياته في النظر في الكتب، والخطِّ بالقلم؟
أما في ميزانية الدولة، أما في صندوق الجمعية، أما في مال الجريدة، ما تشترى به آثار هذا الكاتب (?)، وأشعار هذا الشاعر، وبحوث هذا العالم، بالثمن الذي يعدل ما بذل فيها، ليعيش فيصنع غيرها.