فكر ومباحث (صفحة 210)

فلا يرى الحياة، ولا تصل إليه بآلامها ومصائبها. وأما الفقير فيتخبَّط في لجَّة اليم (يمِّ الحياة) تضربه بأمواجها، فلا ينجو من لطمة إلا إلى لطمة، ولا يخلص من شقاء إلا إلى شقاء.

وقد يكون في هؤلاء الفقراء موهوبون، وقد يكون فيهم ذوو المَلَكَات، وفيهم من إذا استراح من همِّ العيش واشتغل بالعلم برَّز فيه وبرع، ونفع أمته ووطنه وخلَّف للأجيال الآتية تراثاً علمياً فخماً كالذي خلَّفه لنا الأجداد ... فماذا يعمل هؤلاء؟ ومن أين لهم العقل الذي يدرسون به، والهمَّة التي يؤلفون بها، وعقولهم ضائعة في البحث عما يملأ مِعَدهم الجائعة، ويستر أجسادهم العارية، وهممهم مصروفة إلى ضمان الكفاف، والحصول على ما يتبلَّغون به؟

لقد قال الشافعي، رحمه الله، منذ الزمن الأطول: لو كلِّفت شراء بصلة ما تعلَّمت مسألة ... فكيف يتعلم ويدرس ويؤلِّف من يكلَّف شراء الرغيف وشراء ثمن الرغيف؟

إني أعرف كثيرين ممن يؤمَّل لهم أن يبرعوا في الأدب، ويتفوقوا في العلم، قدَّر الله عليهم الفقر والإفلاس، وعلَّق بأعناقهم أسراً عليهم إعالتها، والسعي في إعاشتها، فألقوا القلم والقرطاس، ورموا الدفتر والكتاب، وخرجوا يفتِّشون عن عمل ... يطلبون وظيفة؛ غير أن الطريق إلى الوظيفة وعْرٌ ملتو طويل، لايقدر على سلوكه، ولايبلغ غايته، إلا من حمل معه تميمة من ورق (البنكنوت) يحرقها أمام أبواب الرؤساء لتخرج شياطينها فتفتح له الباب. أو صحب معه (الشفيع العريان) وأين من هذين الشاب النابغ المفلس الشريف؟ ثم إنه إذا بلغ الوظيفة وجدها لا تصلح له ولا يصلح لها، وضاقت به وضاق بها!

أعرف كثيرين من هؤلاء يظهرون فجأة كتَّاباً مجدِّين، وشعراء محسنين، وعلماء باحثين. فما هي إلا أن تنزل بهم الحاجة وتنيخ عليهم (هموم الخبز) حتى تقطعهم عما فيه، ثم تذوي ملكاتهم وتَجفُّ قرائحهم وتتركهم يموتون على مهل، ويموت بموتهم النبوغ. وأرباب الأقلام وأصحاب الصحف يشهدون مصارعهم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015