أما عمل الوراثة، فهو أضعف مما تقدم، والوراثة النفسية لم تثبت ثبوت الوراثة الجسمية التي وضع فيها (مندل) قانونه المشهور، وقد نقل (ريبو) في كتابه أن أثر الوراثة قد استقري في مئة عالم وأديب فوجد متخلفاً ولم يقطع فيه إلى اليوم، على أن الذي يهمنا من الوراثة، ما نسميه بوراثة الدم، وهو هذه الصفات العامة في شعب من الشعوب، وأثر هذا النوع من الوراثة ظاهر في أدبنا، ولولاه ما اختلف مذهب ابن المقفَّع في الكتابة عن مذهب عبد الحميد، وهما عصريان يعيشان في بيئة واحدة تقريباً، ولا ابن الرومي عن البحتري.
أما التكوين الجسمي فأثره قوي جداً في تكوين أدب الأديب، ولست في حاجة إلى إثبات هذا الأثر، لأنه لا ينكر أحد صلة الأعصاب بالعواطف والأفكار، ولا ينكر أحد أن للحياة الفسيولوجية تأثيراً في الحياة النفسية، وأن الحواس هي النوافذ التي نطلُّ منها على العالم الخارجي، وأن نظرنا إليه يختلف باختلاف صحتها ومرضها، وكمالها ونقصها، فتصور بشَّار الأعمى للجمال غير تصور البصير، وجسم بشار الضخم وحيويته المتدفقة هي التي زادت في حاجته إلى المرأة فتغزل بها وأفحش، فحال الناس بينه وبين ما يريد، فهجاهم فأقذع، فأنت ترى أن جماع فن بشار، وهو غزله وهجاؤه راجع إلى حالته الجسمية، وقل مثل ذلك في جمال أبي نواس، ثم إن عند السيكولوجيين نظرية مركب النقص، وهي التي عبَّر عنها العرب بقولهم: كل ذي عاهة جبَّار، وهي تثبت هذا الذي نتحدث عنه.
فإذا انتهيت من درس هذه العوامل، درست نتائجها في أخلاق الشاعر وميوله، وأثر هذه الأخلاق والميول في شعره.
ثم درست مزايا شعره، ومصادره، وأثره في الأدب.
هذه هي الدراسة الكاملة، ولكن هل يمكن تطبيقها في المدارس؟ أكاد أقول: لا. وأنا مطمئن إلى صحة ما أقول، ذلك أن واضعي المنهج لم يجعلوا غايتهم مثل هذه الدراسة، ولم يلاحظوها، وإنما لاحظوا اطلاع الطالب على أكبر عدد ممكن من الشعراء والكتاب وصفات العصور الأدبية.