من سنين وأعوام. ذلك لأن «الفتح الإسلامي» فتح أبديّ، مستقر في القلوب، لا تقوى قوة بشرية على انتزاعه، وهذه هي ميزته التي امتاز بها على كل فتح في التاريخ.
أما في العلم والثقافة؛ فقد كان «الفتح الإسلامي» أكبر حادث علمي، لأنه حمل إلى البلاد التي فتحها علم السماء والأرض، فحرَّر عقولها بالتوحيد، وأعتقها من عبودية الأحجار والأشجار، والنيران والأخشاب، والقسس والأشراف. ثم وضع في أيديها القرآن الذي يأمر بالتفكُّر في خلق السموات والأرض، ويَحْفِز إلى البحث والنظر والاستدلال، والسنَّة التي ترغب في العلم وتدعو إليه، وتجعل طلبه فريضة على كل مسلم؛ وكان الفاتحون أنفسهم علماء فما إن فرغوا من الحروب حتى وضعوا السيف وحملوا القلم، وألقوا الدروع وأخذوا الكتب، وجلسوا في المساجد (والمساجد برلمانات المسلمين وجامعاتهم العلمية) يُدرسون ويُقرئون ويبحثون، فكان من تلاميذهم المفسرون والمحدِّثون، والفقهاء والأصوليون، والأدباء والنحويون، والقصاص والمؤرخون، والفلاسفة والباحثون، والأطباء والفلكيون، أولئك الذين تصدَّروا بعدُ للتدريس في جامعات الشرق، وجامعات الأندلس، فجلس بين أيديهم الباباوات، والملوك ملوك أوروبا، وكانوا أساتذة العالم الحديث.
فكان من ثمرة الفتح أن هذه البلاد الأعجمية -التي كانت تئن في ظلام الجهل والظلم- لم تلبث أن ظهر منها علماء فحول، كان لهم الفضل على العقل البشري، ولا تزال أسماؤها خالدة، تضيء في جبين الدهر.
ومن لعمري ينسى البخاريّ والطبريّ والأصبهاني والهمدانيّ والشيرازيّ والسَّرَخْسي والمرْوَزي والرازيّ والخُوارزْمي والنَّيْسابوريّ والقزوينيّ والدِّينوَري والسِّيرافي والجُرجاني والنَّسائي وغيرَهم وغيرَهم ممن لا يحصيهم عدّ؟ ألا يشعر كل مسلم بأن هؤلاء وأمثالهم هم علماء الملَّة وأعلامها؟ ألا نحلُّ كتاب البخاري أسمى محل من نفوسنا، ونتخذه حجة بيننا وبين الله؟ ألايؤلف هؤلاء العلماء صلة من أوثق الصلات بيننا وبين فارس لا يستطيع أن يفصم عراها مئة حكومة