نشرت سنة 1936
«الفتح الإسلامي» (?) أكبر لغز من ألغاز العبقرية، وأروعُ أحْجيَّة من أحاجي النبوغ، وأجلُّ مظهر من مظاهر العظمة في تاريخ البشر. ولقد مرت عليه إلى اليوم قرون طويلة، وأعصار مديدة، ارتقى فيها فن الحرب، وتقدم فيها البشر أشواطاً في كل ميدان من ميادين الحضارة، وغاص المؤرخون في أعماق الحوادث التاريخية، فكشفوا أسرارها وعرفوا أسبابها، فبدت لهم هيِّنة ضئيلة، بعد أن كانوا يرونها لغزاً لا يحل، ولكنهم لم يستطيعوا أن يكشفوا سر الفتوحات الإسلامية ولم يدركوا كُنْهَها. وستمر قرون أخرى وأعصار قبل أن يكشف ذلك السر، وقبل أن يرى تاريخ البشر حادثاً أعجب وأعظم من «الفتح الإسلامي».
إن الحوادث العظيمة في التاريخ على اختلاف مظاهرها وتنوُّع أشكالها، لا تعدو أن تكون واحدة منذ ثلاث: إما أن تكون عظمتها فيما أورثت الإنسانية من حضارة وعمران، وما رفَّهت من عيش الناس، وما أفادتهم من رغد ونعمة وترف، وإما أن تكون هذه العظمة فيما خدمت به العقل البشري، وأمدَّته بأسباب القوة والنضج، ورفعت من تفكير الناس، وأدنتهم من المثل العليا التي يطمحون إليها، بما فتحت عليهم من أبواب الثقافة وسُبل المعرفة، وإما أن تكون عظمة الحادث التاريخي في ذاته، وفيما ينطوي عليه من بطولة نادرة، وقدرة عجيبة، وجلال لا يعرفه التاريخ إلا قليلاً؛ أي أن العظمة إما أن تكون عظمة حضارة وعمران، أو علم وفكر، أو بطولة وحرب.