أما الرد على ما استدل به الأحناف فيكون بالآتي: أولاً: الحديث الذي استدلوا به وهو حديث مكحول حديث ضعيف؛ لأنه مرسل بالاتفاق بين جماهير المحدثين، وإن كان هناك خلاف في ضعفه، لكن نقول: إن المرسل ضعيف، والقاعدة عند العلماء: أن الأحكام فرع على التصحيح، فإن صح الحديث أخذنا به، وإلا فلا.
ثانياً: لو قلنا بصحة هذا الحديث (لا ربا بين مسلم وبين حربي في دار الحرب) فإنه مصادم للآيات المحكمات التي عممت وأطلقت وأكدت حرمة الربا، وأيضاً عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم المحكم الذي لا احتمال فيه: (لعن الله آكل الربا)، فهذه المصادمة تجعلنا نرجح الأدلة التي تحرم الربا؛ لأن القوة غير متوازنة، لكنَّ هذا الحديث ضعيف أصالة فلا يقف أمام هذه الجبال.
أيضاً: لو قلنا: إن هذا الحديث صحيح يستدل به، لكن يعتريه ما يعتريه من الاحتمالات، فالاحتمال الأول أن (لا) ناهية، أي: لا تتعاملوا بالربا مع الحربي في دار الحرب، وإياكم أن يدخل في صدوركم أنه يحل لكم أن تتعاملوا معه في داره، فـ (لا) هنا ناهية وليست نافية، فيحرم عليكم التعامل بالربا.
والاحتمال الثاني: إن (لا) تكون نافية، أي: لا حكم للربا في دار الحرب بين المسلم وبين الكافر، فيصح له أن يتعامل معه، لكن لما كان للحديث احتمالات قلنا بالقاعدة القوية الصارمة التي تبتر هذه الأدلة: إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال، وتبقى عندنا الأدلة سالمة من كل معارضة صحيحة صريحة تثبت لنا حرمة التعامل مع الكافر في دار الحرب بالربا.
وأمَّا الدليل الثاني الذي استدلوا به وهو: أن العباس كان يتعامل بالربا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأول ربا أضعه في الجاهلية ربا العباس)، فيحتمل أن العباس لم يكن يعلم بحرمة الربا، ولم يكن يعلم بنزول الآيات المحرمة له، ولم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فلما كان لم يعلم، لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يؤخذ من إقرار النبي بما سبق أنه رضي بذلك.
ويرد عليهم أيضاً: أن العباس لو تعامل بذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم أقره، وكان هذا بمحفل مع الصحابة، فهل يوجد صحابي واحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعامل بذلك مع كثرة أسفاره، ومع إعوازه وحاجته للمال؟ فلما أجمع الصحابة على حرمة التعامل بهذه الطريقة علمنا أنهم فهموا من النبي صلى الله عليه وسلم أن الربا يحرم على الإطلاق، سواء في دار الإسلام أو في دار الكفر.
أما الدليل الثالث الذي استدلوا به وهو: أن الأصل في أموالهم الحل، فنقول: نعم الأصل في أموالهم الحل بشرط وقيد وليس على الإطلاق، فأموالهم ونساؤهم حلال لنا في الحرب بيننا وبينهم، لما عتوا عن أمر الله جل في علاه، وتربعوا على عرش الشيطان، وذلوا للشيطان دون الرحمن جل في علاه، لذلك جعلهم الله أذلاء لأهل الإسلام، فإذا أصبحت الحرب ضروسا بين أهل الإسلام وبينهم فنقول: كل مال أخذوه فهو غنيمة، وكذلك نساؤهم فهن غنائم لأهل الإسلام.
ويرد عليهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم (أدِّ الأمانة - وهذا عام - لمن ائتمنك ولا تخن من خانك) فإن خاننا أهل الكفر وقتلونا وشردونا وسرقوا أموالنا وهتكوا أعراضنا، فلا نقابلهم بالمثل؛ لأننا مأمورون بشرائع وأحكام، فلا بد أن يأتمر المسلم بأمر ربه، فيؤدي الأمانة لمن ائتمنه، فإذا دخل بتأشيرة الأمان، فأمنوه على نفسه وماله وعرضه، وجب عليه أن يقابلهم بالحسن ويؤمنهم على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم، ولا يجوز له أن يتحيل على أموالهم فيأخذها بهذه الطريقة.
ومن ارتقى مرتقىً صعباً كـ الشوكاني قال: يجوز له أن يسرق البنوك، ولكن هذا كلام فاشل باطل مخالف لجماهير أهل العلم ومخالف للأثر وللنظر.
هذا آخر ما يمكن أن يقال في هذه المسألة، ونسأل الله جل في علاه أن يغفر لنا ولكم.