ولما كان أهل مكة حدثاء عهد بالإسلام، وفقههم في أحكامه ومراميه قليل، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم خلّف فيهم (معاذ بن جبل) يعلّمهم كتاب ربهم وسنة نبيهم (?) .
وجعل (عتّاب بن أسيد) أميرا على مكة (?) وعمره يومئذ عشرون سنة.
وكان (عتاب) شابا ذكيا، قنوعا شجاعا، وقد تقرّر له من مال المسلمين درهم كلّ يوم، وهو مرتب الإمارة، فقرّت بذلك عينه، بل إنّه خطب الناس فقال:
أيها الناس! أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول الله درهما كل يوم، فليست بي حاجة إلى أحد.
ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في الشهر الأخير من السنة الثامنة.
لله ما أفسح المدى بين هذه الأوبة الظافرة بعد أن توّج الله هامته بالفتح المبين، وبين مقدمه إلى هذا البلد النبيل منذ ثمانية أعوام!.
لقد جاءه مطاردا يبغي الأمان، غريبا مستوحشا ينشد الإيلاف والإيناس، فأكرم أهله مثواه، واووه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، واستخفّوا بعداوة الناس جميعا من أجله، وها هو ذا بعد ثمانية أعوام يدخل المدينة التي استقبلته مهاجرا خائفا، لتستقبله مرة أخرى وقد دانت له مكة، وألقت تحت قدميه كبرياءها وجاهليتها، فأنهضها ليعزها بالإسلام، وعفا عن خطيئاتها الأولى:
... إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 90] .